بين إطلالاتِ أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله وإطلالة الإعلامية ربيكا أبو ناضر في برنامجها اليومي على قناة «ام تي في»... لبنانان. واحِدٌ مُنْفَصِلٌ عن الواقعِ يأخذ البلدَ إلى محورٍ كلُّ ما فيه مُنْهارٌ باستثناءِ شعاراتِ الكرامةِ والبطولةِ والانتصاراتِ الإلهية، وآخَر يعكس تماماً واقعَ اللبنانيين الذين يتّصلون بـ «مدام ربيكا» عارِضين مآسيهم.
مَن يسمع خطابات أمين عام الحزب يلمس محاولةً دؤوبةً كي يُقْنِعَ سامعيه بأن الكرامةَ تُغْني عن الخبز، وأن العِزّةَ تُغْني عن التعليم، وأن الفخرَ يُغْني عن التشافي. كلامٌ تَمْويهي مُنْفَصِلٌ عن الواقعِ في بلدٍ كان فيه كرامة وعِزّة وفخر، وأيضاً خبز وتعليم وصحة وحياة مقبولة جداً وطَبَقَة وسطى. لكن هذه المصطلحات ضرورية لتغذية جمهورِ الحزب أو «بيئته» أو «ناسه» وتُرافِقُها في كل مرةٍ اتهاماتٌ لباقي اللبنانيين بأن مَن يربط بين هذا الانهيار وبين سياساتِ الحزب الداخلية والخارجية فإنه يَضرب المقاومةَ ويُضْعِفُ عزيمةَ أهلها، تماماً كما في قوانين البعثيْن السوري والعراقي التي تُحاكِمُ أيَّ مُعْتَرِضٍ بمادةِ «وَهَنِ نفسية الأمة».
وَجَدَ الحزبُ نفسَه في لحظاتٍ معيّنةٍ حاكِماً صريحاً للبنان وليس مُتَحَكِّماً فيه عبر واجهات، وكان ثَمَنُ هذا «الحُكْمِ» كبيراً على لبنان وعلى صورةِ الحزب نفسه. لم تَعُدْ لعبةُ «الواجهات» تستقيمُ من دون تغطيةِ فسادِ الطَبَقَة السياسية التي دَعَمَها في الرئاسة والحكومة والبرلمان. كلُّهم داروا في فلَكه، ولكن كلّهم كانوا يتطلّعون إلى ثمن هذا الدوران، فتم تقسيمُ ما بقيَ من مَوارد في الدولة بينهم حتى الوصول إلى «مصّ دم الناس».
خارجياً، تَكَفَّلَ الحزبُ بامتيازٍ في قَطْع كل الروابط بين لبنان ومحيطه العربي، ولعبتْ أدواتُه الداخليةُ دوراً أساسياً في تغطيةِ هذه القطيعة عبر رفْض وزير الخارجية السابق جبران باسيل مثلاً إدانة قصْف أرامكو في السعودية، أو إطلاق وزراء ومسؤولين من طوائف أخرى تصريحاتٍ مُعادية لدول الخليج، وعَيْنُهم على مكرمةٍ داخليةٍ من الحزب سواء عبر منصبٍ أو تعييناتٍ إدارية أو صفقة مالية.
بعيداً عن الوهْمِ وقريباً من الواقعية، انهارَ كل شيءٍ نتيجةَ نهْج الحزب وأدواته الداخلية، وانتقلْنا من جمهوريةِ «لبنان المُنْتَصِر» إلى جمهوريةِ مدام ربيكا. تحوّلتْ الصيغةُ التي فُرضتْ بقوةِ السلاح، جيش وشعب ومقاومة، إلى صيغةٍ أخرى فُرضتْ بقوةِ الجوع، انهيار وفقر وذلّ.
طَبَقَةٌ سياسيةٌ بأبهى البدلات وأفْخمِ الساعات يقف رجالُها أمام الكاميرات للهروب من مسؤوليتهم في ما وَصَلَ اللبنانيون إليه اقتصادياً واجتماعياً عبر التلطي وراء حقوق الطوائف وشعارات الفيديرالية والتهديد بالتقسيم أو بالحرب، وغالبيةٌ لبنانيةٌ واقعيةٌ تتحدّث بأسمائها الصريحة على الهواء في برنامجِ ربيكا. بعضُها يناشد أهلَ الخيرِ دفْعَ الإيجار كي لا يبيتَ ليْله في الشارع. بعضُها يطالب بدخول مستشفى لإجراء عملية قطْع أطراف كي لا يتسمّم جسمُه. بعضُها يقول إنه لم يَعُدْ يعرف طَعْمَ اللحمة بعدما صار ثمن الكيلو منها نصف مدخوله. بعضُها يعرض كليتَه للبيع، وبعضُها وصل فيه الأمر لعرْض طفله للبيع. يَبْكي رجلٌ بعد طرْد ابنه من المدرسة لأنه لا يملك القسط، تَبْكي صبيةٌ لأنها تحتاج جرعاتِ أوكسيجين وعلاجاً للتليّف الرئوي ولا تملك ما يُعينها على ذلك. تختنق الأرملةُ على الهواء لأنها لا تملك الخبزَ ولا حتى ماء الشرب. تستسلم المصابةُ بالسرطان للمَرَض بعد استحالة تأمين دواءٍ لأن الطَبَقَةَ السياسيةَ نجحتْ في تسريع نهايتها... ويَنْهارُ مُسِنٌّ ويَنْقَطِعُ حديثُه لأنه لا يملك تكاليفَ ترتيبات دفْن زوجته.
ما يقوله المتّصلون بـ مدام ربيكا هو لبنان الواقع، وما يقوله الحزبُ الحاكِمُ في لبنان وأدواتُه هو الوهْم. ما يقوله المتّصلون يستدرج القليلَ من المساعدة، وما يقوله الحزبُ الحاكِمُ وأدواتُه يستدرج الكثيرَ من الانهيار. ما يقوله المتّصلون وصمةُ عارٍ في جَبين مَن حَكَمَ وتَحَكَّمَ بلبنان، وما يقوله الحزبُ وأدواتُه هو الهروبُ من المسؤولية إلى «الضحك على الذقون» عبر تحميل أميركا المسؤولية أو دول عربية أو السفارات الأجنبية، أو إرساء معادلة جديدة: إما بقاء هذه المنظومة أو الحروب الداخلية والخارجية.
دمعةُ كل مُحْتاجٍ في لبنان هي «الواقعُ الصادق» في مواجهة الوعودِ المقلقة.