... مَن يربح المليون في لبنان؟ العملةُ المتهالكة التي كلما زادتْ أصفارُها تَقَلَّصَتْ قيمتُها الشرائية، أم المواطنُ الذي ستُختزل أوراقُ راتبه الكثيرة (حالياً) بأقلّ منها بكثير كثير، أم الإقتصادُ الموعود بتضخمٍ إضافي، أم المحفظة التي لم تعد تتسع لِما يحتاجه مشوار سريع إلى السوبرماركت من أوراق نقدية؟
سؤالٌ إستباقي يُرافق الكلامَ الكثير عن عزْم مصرف لبنان المركزي إصدار ورقة نقدية من فئة المليون ليرة، وسط تقديراتٍ متناقضة، تارةً تؤكد وتارة تشكّك في إمكان إنضمام المليون إلى الفئات الأخرى من العملة اللبنانية... الألف، الخمسة آلاف، العشرة آلاف، العشرون ألفاً، الخمسون الفاً والمئة الف.
ورغم إعتقاد مصادر مالية أن المركزي لن يُصْدِر المليون في وقت قريب وإعتبار خبراء في الإقتصاد أن هذه الخطوة آتية لا محالة، تسود توقعات في بيروت أن ورقة المليون سترى النور بالتزامن مع بدء تطبيق السعر الرسمي الجديد للصرف أي 15 ألف ليرة للدولار الواحد (عوض السعر الحالي وهو 1507 ليرات) وذلك في الأول من فبراير المقبل.
السعر الجديد للعملة الخضراء سيُطبَّق على السحوبات بالدولار من المصارف ما يعني انه سيتم سحب كميات أكبر من الودائع بالليرة اللبنانية، مع الإشارة إلى ان مصرف لبنان لم يُصْدِر حتى اليوم أي بيان رسمي في شأن ورقة المليون التي تتضارب الآراء حيال إرتداداتها على مستويات عدة.
«الراي» سعت في هذا التقرير إلى سبر أغوار «الصفر الجديد» الذي سينضمْ إلى أوراق العملة اللبنانية عبر الحديث إلى خبراء في المال والإقتصاد عن ملابسات هذه الخطوة، إيجابياتها وسلبياتها وإلى ما تؤشر إليه وتعبّر عنه في سياق أزمات لبنان المالية والإقتصادية والنقدية.
تُعَدّ طباعةُ الأوراق النقدية من الفئات الأكبر، في الحال اللبنانية السائدة مؤشراً الى أن الفئات الصغيرة من العملة الوطنية فقدتْ قيمتَها الشرائية، ولم تَعُدْ قادرةَ على شراء سلع وخدمات كانت تشتريها سابقاً.
وفي رأي الخبير الإقتصادي ومدير معهد دراسات السوق باتريك مارديني أن «طباعة ورقة المليون ليرة ستكون إنعكاساً للأزمة النقدية التي يعانيها لبنان، وتعني إنهياراً مضطرداً في سعر صرف الليرة مقابل الدولار وإرتفاعاً كبيراً بالأسعار». علماً أن لبنان يعاني أزمات أخرى، ومنها المصرفية والإقتصادية والمالية.
وفي حِسبة بسيطة - بحسب مارديني - يتبيّن "إنخفاضُ قيمة ورقة الـ 5 آلاف ليرة، من نحو 3.3 دولار وفق سعر الصرف الرسمي للدولار أي 1507 قبل العام 2019، لتصل إلى 10 سنتات راهناً إذ وصل الدولار إلى نحو 48 ألف، فيما باتت ورقة الألف ليرة تساوي 2 سنت تقريباً. وتالياً باتت كلفة طباعة فئات النقد الصغيرة أعلى من قيمة الورقة نفسها وخصوصاً أنه يتمّ طباعة الورق في شركات أجنبية تملك تقنيات حرفية عالية".
أما الخبير الإقتصادي بلال علامة فيعتبر أنه «عندما تلجأ دولة معينة لطباعة أوراق نقدية من الفئات الكبيرة فهذا يعني أن مستقبل التداول بالنقد سيكون بأرقام كبيرة وبحجم كبير».
خيار حتمي؟
يتوقع كثيرون، قرب التداول بورقة المليون ليرة، وربما بأوراق من أرقام أخرى جديدة، بحجة التخفيف من حَمْل أوراق نقدية كثيرة وبهدف تسهيل المعاملات التجارية.
فإذا استمرّ الحال على ما هو، قد يضطر اللبنانيون إلى حمْل حقيبة أموال عند الذهاب للتسوّق أو لتسديد مستحقات مترتبة عليهم، بسبب إرتفاع الأسعار وفقدان العملة قيمتها.
ويؤكد مارديني أن ورقة المليون ليرة الجديدة ستكون في الأسواق عاجلاً أم أجلاً «وهي مسألة وقت ليس أكثر».
ويرى علامة أنه «بعد الإنهيار الكبير الذي أصاب مالية لبنان والوضعين النقدي والإقتصادي وخصوصاً أن النظام المعتمَد في لبنان أصبح نظام الإقتصاد النقدي (ولا نعرف حقيقةً مَن دفع للوصول إلى هذا النموذج أو النظام) بات من حُكْم المؤكد أن تعمد السلطات المعنية إلى إصدار فئات نقدية كبيرة قد تصل إلى فئات تحمل ستة أرقام لتسهيل التعاملات والتداول».
ووفق المعلومات التي تمّ تسريبها، فإن الفئات الكبيرة سواء فئة المليون أو الـ500 الف باتت جاهزة في إنتظار قرار إدراجها في الأسواق، وتالياً قد يكون تمّ طباعتها، بحسب علامة.
ولكن؟
يأسف مارديني للجوء إلى هذا الخيار «المؤلم»، قائلاً "كنا نتمنى رفع قيمة الألف والـ5 آلاف ليرة الموجودة في السوق وإسترجاع قيمتها بدل إضافة أصفار على الليرة«. ويضيف:»يشي هذا الخيار بأننا في لبنان قد تخلينا عن الليرة، وكأننا نقرّ بأن لا أمل في أن تستعيد قيمتها، وأن إنهيار العملة سيستمر".
ويتخوّف اللبنانيون من إشتداد الأزمة الإقتصادية والمعيشية أكثر، بعدما ثبتت التجربة المعاشة أن السلطات السياسية والنقدية تلعب دور المتفرّج والعاجز عن إتخاذ أيّ خطوات فعلية للحد من إنهيار العملة أكثر، ما يعني تسليماً بالأمر الواقع والتوقف عن مقاومة التضخم.
وفي ضوء ذلك، قد يكون الهدف من طرح الأوراق النقدية الجديدة من الفئات الكبيرة، تسهيل حركة السيولة في المرحلة المقبلة لأن ثمة مشكلة جدية يشكّلها التداول بالأوراق النقدية، إلا أن حلولاً علمية أخرى كان يمكن أن تتّخذها السلطات المعنية من أجل خفض حمل الأوراق النقدية وتفي بالمطلوب ومنها تسهيل إستعمال بطاقات الدفع في المعاملات الإقتصادية.
ما الفارق؟
يتساءل البعض حول الفارق بين شطب أو زيادة أصفار على العملة الوطنية، ولماذا تختار الدول التي تعاني إقتصاداتها إنهياراً نقدياً أن تزيد أصفاراً بدل شطبها، علماً أن هذا مؤشر سيء لأن مَن يزيد أصفاراً أو يشطبها يعيد الكرة مرة تلو أخرى، وخصوصاً في حال إستمر الأنهيار؟ يقول مارديني «الخياران يعبّران عن المشكلة نفسها، والتي هي الأزمة النقدية أيّ إنهيار سعر صرف العملة والتضخم».
ويضيف: «إصدار فئات أعلى أسهل تقنياً من شطْب الأصفار، ففي الحال الأولى يكفي إصدار أوراق جديدة أما القديمة فإنها تختفي تدريجاً من السوق، بينما شطْب الأصفار يتطلب سحب العملة الموجودة في التداول وضخّ عملة غيرها». والأسوأ أن الأوراق من الأرقام الكبيرة يصعب سحبها في المستقبل.
ما تأثيرها، السلبي والإيجابي؟
وفي رأي مارديني أن "هذه الخطوة يترتّب عليها انعكاسان مباشران، الأول إيجابي وحيد إذ تسهل التداول والتعاملات النقدية والتبادل التجاري في السوق، وخصوصاً أن المحفظة لم تعد تتسع للأوراق الكثيرة بعدما تدنت قيمة العملة. فأكبر ورقة أيّ الـ100 ألف باتت تساوي نحو دولارين وفق سعر صرف الدولار راهناً. أما الإنعكاس الثاني فهو سلبي كون هذه الخطوة ستسهل زيادة حجم الكتلة النقدية وزيادة كمية الليرة في التداول من حيث الأرقام، وتالياً كميات الليرة التي ستُضخ في السوق على الأرجح ستكون بوتيرة أعلى لأن قيمة الأوراق باتت أعلى".
ويعتبر مارديني أن زيادة النقد بالتداول سيؤدي الى مزيد من الإنهيار بسعر الصرف والمزيد من ارتفاع الدولار ما سيتسبب بضغوط تفضي إلى إرتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.
ويقول علامة «إن وجود الفئات الكبيرة يعني تآكُل القيمة الحقيقية للنقد لتصبح أوراقاً خفيفة من حيث القيمة والوزن المالي». ويضيف «المخاوف الحقيقية مشروعة، وقد يكون الحذر من تآكل قيمة النقد ووزن المال الفعلي في محله. ويتوجب على المصرف المركزي عند طرح الفئات الكبيرة في الأسواق سحْب الفئات الأصغر بحيث لا تؤثر الفئات الكبيرة على حجم السيولة المتداوَلة خوفاً من مزيد من التضخم».
على مقلب آخر، يتحدّث البعض عن عامل نفسي سيلعب دوراً مهماً في إعتبار أن ورقة الـ100 ألف باتت دون المستوى، فرغم إنخفاض قيمتها الشرائية، هي اليوم أعلى ورقة نقدية في التداول.
وعلى سبيل المثال، فإن من يتقاضى راتب 3 ملايين ليرة، وهم كثر في لبنان، فإن راتبهم هو عبارة عن 30 ورقة من فئة الـ100 ألف، ولكن في حال صدور ورقة المليون ليرة فإن الراتب نفسه سيكون عبارة عن ثلاث أوراق ليس أكثر.
ويذهب البعض أبعد من ذلك، إذ إن تسعير السلع والخدمات التي هي دون المليون سيتم رفعها تلقائياً لتلامس المليون، فمثلاً سعر سلعة كان نحو 800 ألف سيتم رفعه إلى المليون حتماً في حال صدرت الورقة الجديدة.
ماذا بعد؟
يقول علامة إنه في حال أُدرجت الفئات الكبيرة من ضمن السيولة المتداوَلة المحتسَبة فهي لن تؤثّر على سعر الصرف أما في حال اعتُبر إدراجها إضافات على حجم السيولة المتداوَلة فهي حُكْماً تؤدي إلى تَسارُع التدهور وتَفاقُم مشكلة سعر الصرف. في شكل عام، المشكلة المتعلقة بإدراج فئات من النقد تحمل أرقاماً كبيرة تكمن في أن وجود هذه الفئات يعني إنخفاض مستوى الثقة بالنقد في وقت كل مؤسسات لبنان المالية وغير المالية باتت غير موثوقة في غيابٍ كامل للسياسات المالية الواضحة وفي ظل سلطةٍ تتعاطى مع الموضوع كردة فعل وليس كفعل".
قانونياً
منذ أيام، ذكرت تقارير إعلامية أن البنك المركزي طلب من حكومة تصريف الأعمال موافقتها على طرح الورقة الجديدة، لتخفيف كتلة طباعة العملة إلا أن إصدار أيّ فئة جديدة من الليرة اللبنانية يحتاج إلى قانون.
يقول المحامي جاد طعمة «وفقاً لأحكام قانون النقد والتسليف إن مصرف لبنان هو الجهة الوحيدة صاحبة الإمتياز لإصدار النقد الوطني». ويضيف: «بالتأكيد يطبّق مصرف لبنان السياسة المالية التي تقرّها الحكومة، لكن الهنْدسة المالية هي نظرياً بيد الحاكم والمجلس المركزي داخل مصرف لبنان».
وعما إذا كان إصدار الأوراق الجديدة يحتاج إلى تشريع، يقول طعمة: «خالَف المركزي في كل التعاميم والإجراءات الصادرة منذ بدء الأزمة في لبنان قانون النقد والتسليف»، وتالياً فإن المركزي، وبحجة الظروف الإستثنائية، كالعادة، قادر على إصدار الفئات الجديدة من دون الإستناد إلى أي تشريع. ويلفت طعمة إلى أن الضغط الدائم في إتجاه تشريع جديد هو ليس سوى لمنْح براءة ذمة عن التصرفات غير القانونية التي يقوم بها المعنيون.
وتنطلق مقاربة طعمة للمسألة ككل من وجهة نظر قانونية هي على خلاف كبير في التقييم والرؤية مع البنك المركزي والمصارف وجمعية المصارف وحتى القضاء اللبناني، على حد تعبيره.
تاريخياً
وكان النائب زياد حواط، قد تقدم في شهر أغسطس 2022 باقتراح قانون معجل مكرر بهدف تعديل قانون النقد والتسليف للسماح لمصرف لبنان بإصدار أوراق نقدية من فئات تفوق الـ100 ألف ليرة. ويرمي الإقتراح إلى تمكين المركزي من وضع أوراق نقد جديدة في التداول، وهي 500 الف ليرة، مليون ليرة، مليوني ليرة وخمسة ملايين ليرة.
يُذكر أنه، في العامين 1987 و1992 تم تعديل قانون النقد والتسليف من أجل السماح لمصرف لبنان بوضع فئات أعلى في التداول، إذ أجاز مجلس النواب في المرة الأولى إصدار أوراق نقدية من فئتي الـ500 ليرة والـ1000 ليرة، فيما كانت أعلى فئة في التداول آنذاك 250 ليرة، ليعود المركزي ويُصْدِرَ أوراقاً نقدية من فئات، خمسة آلاف، عشرة آلاف، عشرون ألفاً، خمسون ألفاً ومئة ألف ليرة، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة مرة أخرى.