«آخِر تَواصُل بيننا كان قبل أسبوعين. أرسلوا لي تسجيلاً صوتياً وصوراً عبر الهاتف تُظْهِر أصوات تعذيب وتعنيف للطفلين. ولم أسمع عنهما شيئاً حتى اليوم» يقول ماجد غالب عروب لـ«الراي».
وعروب هو والد الشقيقيْن السورييْن غالب (15 سنة) ومهند (13 سنة) اللذين خُطفا صباح 22 أكتوبر 2022 بينما كانا ينتقلان من منزلهما الى مكان عمل والدهما المخصّص لبيع الألبسة المستعمَلة في بعلبك، ولا يزالان رهينتيْن حتى اليوم.
وبحسب عروب فقد طلب الخاطفون فديةً مالية بقيمة 350 ألف دولار، ولأن العائلة كررتْ مراراً أنها لا تملك هكذا مبلغ، تمّ خفْض قيمتها إلى 190 ألف دولار، ويقول: «لا أملك من المبلغ 2000 دولار، والناس «وضعها ع قدّها». مَن يمكن أن يقرضني هكذا مبلغ؟ أريد أن يشفقوا علينا وعلى حال ابنيّ و «يرجّعولي ياهن». لو كان معي المبلغ الذي يطلبونه كنتُ غادرتُ بعلبك منذ زمن».
ويضيف: «دمّروا عائلة بكاملها. أنا وزوجتي لا نعرف ليلنا من نهارنا. وغالب ومهند لا بد أنهما باتا يعانيان عقدة نفسية وهما سجينان منذ نحو شهرين، ولا نعرف كيف يمرّ الوقت عليهما، ولا ماذا يأكلان ولا كيف ينامان».
وبحسب عروب فإن آخِر ما توصلت إليه الأجهزة الأمنية اللبنانية هو أن الطفلين باتا على الحدود السورية وهذه المنطقة خارجة عن سيطرتها. لذا يحاول الوالد المنهَك التواصل مع جهات سورية وأخرى مؤثّرة هناك من أجل التوسط لإعادة الطفلين «حتى أنني ناشدتُ الرئيس بشار الأسد أن يتدخل».
ويسرد «يوم الحادثة اتصلا بي ولم أردّ، إذ لم يكن لديّ انترنت، عندها توجّها من المنزل إلى المحل. وعلى الطريق، لاحقتْهما سيارة وتمّ خطفهما، وطوال النهار اعتقدتُ أنهما في البيت ووالدتهما ظنّت أنهما وصلا الى المحل»، إذ إعتادا مساعدة والدهما في العمل وخصوصاً أيام الإجازات لكن كان الأب يتولى نقْلهما في كل مرة.
وفي وقت سابق، تمّ خطف إبن شقيقة عروب وتعرّضت العائلة لعملية ابتزاز مشابهة وقد استعانت حينها بأقاربها في الخارج، وتم تأمين مبلغ 40 ألف دولار وسُددت الفدية حينها وجرى تحرير الطفل، ما شجع الخاطفين على تكرار الفعل مرة أخرى، حسبما يعتقد كثيرون.
وقد أثارت هذه الحادثة غضباً كبير في بعلبك والبقاع عموماً إذ أنها طالت أطفالاً وهدّدت سلامتهم.
حوادث متنقلة
وحادثة الطفلين، ليست سوى واحدة من جرائم خطف كثيرة حصلت في الفترة الأخيرة في لبنان بهدف طلب فدية مالية، وتمّ الإعلان أو التكتم عنها.
وبطريقة قطّاع الطرق، يتم الخطف بقوة السلاح. يقتادون الضحية الى مكان مجهول، يطلبون مبالغ مالية ويمهلون عائلته فترة لتأمين المال المطلوب.
وتنوّعت الحوادث لتشمل اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، والأجانب من جنسيات مختلفة. ولم يَستثن الخطف أحداً، وضمّ أطفال ونساء ورجال، من متمولين ورجال أعمال وأقارب مسؤولين.
كما أنها توزعت جغرافياً، وتنقلت بين البقاع والشمال والجنوب وحتى العاصمة بيروت، ولو أنها أقل وتيرة من البقاع، حيث حوادث الخطف أكثر رواجاً.
ومن بين هذه الحوادث، خطف وسيم حمادة (في العقد الخامس من العمر)، شقيق النائب إيهاب حمادة، في مدينة الهرمل على خلفية خلافات ثأرية سابقة. وخطْف مواطن فلسطيني على طريق المطار اقتادوه إلى بعلبك، ثم اتصلوا بزوجته طالبين فدية مالية بـ 150 ألف دولار أميركي.
وخطف المغترب اللبناني عباس الخياط من أمام منزله في قريطم ونقْله الى منطقة البقاع، وغيرهم الكثير.
وقد تمكنت الأجهزة الأمنية من تحرير بعض المخطوفين وإلقاء القبض على المجرمين فيما عجزت أحياناً أخرى لعدة إعتبارات أهمها هروب الخاطفين خارج الحدود اللبنانية. وتنجح أحياناً الاستعانة بوساطات محلية عشائرية وحزبية وسياسية ودينية في التدخل لدى الخاطفين من أجل الإفراج عن المخطوفين.
ففي قصة حمادة، مثلاً بادرتْ العشيرة التي ينتمي إليها الخاطف إلى تسليم المخطوف خوفاً من تطور الأمور، فيما حررت شعبة المعلومات المواطن الفلسطيني والمغترب اللبناني.
وكانت قوى الأمن الداخلي قد أصدرت بياناً في أبريل 2022 حذرت فيه من عصابات الخطف، ولا سيّما التي تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها تطبيق «تيك توك».
وذكر البيان أن عصابات الخطف تستدرج ضحاياها عن طريق الإعلانات التي ينشرها أفرادها على التطبيق المذكور، موهمين ضحاياهم أنهم يملكون مكتباً للمساعدة على الهجرة إلى دول أوروبية.
بالأرقام
ووفق تقرير «الدولية للمعلومات» (وهو مركز دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقل) نُشر السبت في 10 ديسمبر الجاري، يَظْهر ارتفاع جرائم الخطف لقاء فدية، خلال الأشهر الـ11 من العام الجاري مقارنةً بالفترة نفسها من 2021، إذ بلغ عددها 50 جريمة بعدما كان 12، أيّ بارتفاع 38 جريمة عن السابق، وهو ما نسبته 316.7 في المئة.
وعند المقارنة بين شهري أكتوبر ونوفمبر 2022، في التقرير نفسه، فقد ارتفعت جرائم الخطف لقاء فدية بنسبة 100 في المئة.
يقول الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين في حديث مع «الراي»: "في وقتٍ شهد لبنان خلال الأشهر الـ11 الأولى من السنة الحالية مقارنةً بالفترة ذاتها من العام الماضي تحسُّناً في المؤشرات الأمنية إذ تراجعت سرقة السيارات والسرقات الأخرى وجرائم القتل بنسب تراوحت ما بين 8 و23 في المئة، وهذا أمر لافت، ارتفعت جرائم الخطف للمطالبة بفدية".
وبالتالي انتشار هذه الجرائم، يجعل اللبنانيين قلقين على حياتهم وعلى أولادهم، وكأن الخاطف يقول للناس إبقوا في منازلكم محروم عليكم التنقل، بحسب ما يراه شمس الدين الذي يلفت إلى «ضرورة أخذ الحذر والحيطة من كل الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا مرتبطين بشبكات منظّمة مثل عمال التوصيل وحراس العمارات الذين يمكن أن يزوّدوها بتفاصيل عن ميسوري الحال لوضع خطط لتنفيذ عمليات خطف تستهدفهم».
ولا تُعَدّ هذه الأرقام الكاملة لأعداد جرائم الخطف، كونها تشمل فقط تلك التي تمّ الإبلاغ عنها الى القوى الأمنية، ولكن العديد من العائلات لا تبلغ في العادة، خوفاً من عدم إرجاع المخطوفين ما يدفعهم للاستجابة للخاطفين ودفع الأموال، فيما تتجه بعض العائلات لتبليغ جهات أمنية أخرى. وهنا يقول شمس الدين «ربما توجد عشرات الحالات التي يتم حلها بشكل سريع وسري بين الجهات الخاطفة وأهل الضحية ولا يتمّ الإعلان عنها».
قلق عام
وقد أثارت حوادث خطف الأطفال والبالغين التي نشطت أخيراً في لبنان الخوف والقلق بين الناس من تنامي هذه الظاهرة أكثر في ظل الأزمات الراهنة التي تعيشها البلاد.
إذ يعيش لبنان أزمة نقدية ومالية هي الأسوأ في تاريخه الحديث، تسببت بارتفاع نسب الفقر في لبنان بشكل كبير، وكذلك ارتفاع معدلات البطالة والعوز.
ويقول صبحي أمهز (40 سنة) لـ «الراي»: "بين ضيعتي اللبوة وضيعة زوجتي (رياق) مسافة 40 دقيقة سير بالسيارة ليس أكثر، لكنني صرتُ أحرص على أن لا أعبر هذه الطريق ليلاً، ليس خوفاً من الخطف فقط وإنما من عمليات السرقة التي زادت عن حدها وباتت تشكل عبئاً على أبناء المنطقة هناك".
ويضيف: «حتى في بيروت، قلقون. إذ أسكن راهناً في قضاء بعبدا، وحين أكون في عملي أو في بدارو أعود الى منزلي مع سائق أجرة أعرفه منذ عقد تقريباً، حتى لو كلفني الأمر دفع نقود إضافية، ولكنني أشتري أمني بهذه الطريقة».
ويتخوف أحمد شيبان، وهو أحد أبناء بعلبك، من ازدياد وتيرة الخطف أكثر وأن يسعى كل فرد الى تحقيق الأمن الذاتي له ولعائلته، إذ يقول «بدأت هذه الظاهرة تتفشى أكثر ليس فقط في بعلبك والبقاع، وإنما في بيروت أيضاً، وبات الناس يقتنون السلاح من أجل حماية أنفسهم».
الفقر ليس سبباً
وتشير تحليلات الى أن الأزمة الإقتصادية والمعيشية ساهمت في تجنيد أشخاص لممارسة أعمال الخطف مقابل تقديمات بسيطة، ولكن يؤكد كثيرون ممن يعيشون في البقاع تحديداً أن عمليات الخطف لم ترتبط يوماً بالحاجة المادية.
إذ توجد في لبنان عصابات تمتهن الخطف بهدف الحصول على المال، وربما استفادت أكثر خلال الأزمة المالية والمعيشية في البلاد لاستدراج شبان جدد للعمل معها ومن خلالها.
وبحسب شيبان فإن انتشار تجارة الكبتاغون في الأعوام الأخيرة والتصدي لها أخيراً عبر إحباط عمليات التهريب الى الخارج، ساهمتْ بتفشي ظاهرة الخطف أكثر، كونها تشكل مدخولاً بديلاً لتلك العصابات.
ويلفت كثيرون الى أن ازدياد حالات الخطف في لبنان مرتبط الى حد كبير بالفلتان الأمني الّذي حصل نتيجة الأزمات المالية والمعيشية التي تعيشها البلاد.
وتلعب الحدود غير المنضبطة بين لبنان وسورية، ولا سيّما بعد نشوب الأزمة في سورية العام 2011، دوراً أساسياً في تسهيل الإفلات من العقاب.
ظاهرة قديمة جديدة
تاريخياً، عمليات الخطف مقابل فدية ليست طارئة على المشهد اللبناني بل تعود الى حقبة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) حين انتشرت كثيراً مثل هذه الحوادث. وتركت تلك الحقبة أكثر من 17 ألف مفقود ممن خُطفوا أو اختفوا أثناء الحرب في ما كان يُعرف بـ «الخطف على الهوية» (السياسية أو الطائفية).
ويقول صبحي أمهز: «ترعرعتُ في منزل العائلة في الضيعة، في زمن الحرب الأهلية والفلتان الأمني ولكن لم يكن الأمر متكرراً بالشكل الذي هو عليه اليوم. وكانت العائلات تنبذ مَن يتورط بمثل هذه الجرائم، وتتفق على تسليمه للأجهزة الأمنية، وخصوصاً أن هذا الفعل هو نقيض عن المنظومة القِيمية والقروية السائدة هناك».
وفي هذا السياق، يلفت أحمد شيبان الى صورة بعلبك الجميلة كمدينة ثقافية فيها من الغنى والتنوع «والناس هناك متعطشون لكل ما هو راقي ومتطور، وبالتالي أعمال الخطف لا تليق بهذه المدينة وبأهلها الّذين يرفضون مثل هذه الأعمال ويسعون الى تحقيق كل ما هو جميل».