يخطو لبنان في واقعه المالي - المعيشي خطوةً إضافية على طريق التضخّم المفرط بموجاته العاتية التي ترميه منذ أشهر بين نموذجيْ فنزويلا وزيمبابوي، فيما يراوح الوضع السياسي في عنق زجاجة أزمة الانتخابات الرئاسية التي تنتظر «تفاهُماً» على اسمٍ لن يُستولد إلا بوهج التوازنات الداخلية والتقاطعات الخارجية.
وفي هذا الإطار تَقاسَمَ أجندة الاهتمام في بيروت أمس عنوانان:
- الأول نشْر قانون موازنة 2022 في الجريدة الرسمية وبدء العدّ التنازلي لسريان زياداتٍ على رسوم وضرائب بعضها على سلعٍ يوجد تصنيع محلي مماثل لها (بنسبة 10 في المئة) وذلك قبل نحو أسبوعين من انطلاق العمل المفترض بقرار رفْع الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة وما سيستتبعه كل ذلك من «تسونامي» زياداتٍ «مركّبة» على الأسعار المتفلّتة من أي رقابةٍ جديةٍ وستُفاقِمُها «وَثْبات» دولار السوق الموازية لـ «تأكل» سريعاً مفعول المساعدة الاجتماعية للعاملين في القطاع العام (ضعفا أساس الراتب) التي لحظتْها الموازنة والتي «تتناتشها» أيضاً ارتفاعاتٌ مرتقبة في تسعيرة الكهرباء التي تم رفْعها للمرة الأولى منذ التسعينيات من نحو سنت لكل كيلوواط /ساعة إلى 10 سنتات (لأول مئة كيلوواط) ثم 27 سنتاً لِما فوق.
وإذ ستبدأ الجبايةُ وفق هذه «القفزة الكهربائية» ابتداء من فبراير المقبل بعد أن تكون ساعات التغذية ارتفعت إلى ما بين 8 و10 ساعات يومياً في ديسمبر المقبل، استوقفت أوساطاً مطلعة التقارير التي أشارت إلى أن تمويل استيراد الفيول لزوم تأمين التغذية وفي انتظار انطلاق الجباية (المشكوك أصلاً في تحصيلها بنِسب يُعتدّ بها) وتأمين المركزي استبدال المبالغ المجباة بالليرة بدولارات وفق منصة «صيرفة»، سيكون بما بقي من أموال حقوق السحب الخاصة التي كان لبنان تسلّمها من صندوق النقد الدولي قبل نحو عام (كانت 1.1 مليار دولار) وذُكر أنها لا تتجاوز 300 مليون دولار (تفادياً لإشكاليات تشريع الضرورة في البرلمان المنكبّ على الاستحقاق الرئاسي)، ما يطرح أسئلة حول أبواب صرف الـ 800 مليون دولار الأخرى.
وفي السياق النقدي - المالي نفسه الذي يشي بمزيدٍ من إرهاقِ اللبنانيين «المنكوبين» ولا سيما إذا لم يكن الاستحقاق الرئاسي رسا على خيارٍ يسمح بوضْع البلاد على سكة انفراجٍ يبقى منطلقُه سياسياً بالدرجة الأولى، لم يكن عابراً إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن «الفجوة كبيرةٌ بين سعر السوق الموازية (للدولار) والسعر المحدد من مصرف لبنان (1507 ليرات)، ولن تستقيم الأمور إلا عندما يصبح السعر واحداً. وقد اعتمد مصرف لبنان منصة صيرفة كحل موقت. وفي الأشهر المقبلة، سيتم العمل على توحيد السعر تدريجياً. في الشهرين المقبلين، وسيصار إلى اعتماد سعر صرف جديد، وبعده بأشهر عدة سيتم تحديد سعر آخَر».
- والعنوان الثاني هو الانتخابات الرئاسية التي تضرب غداً موعداً مع جلسة انتخاب سادسة دعا إليها رئيس البرلمان نبيه بري ستلتحق بسابقاتها لجهة انتهائها إلى «لا انتخاب».
ورغم الخلاصة المحسومة للحلقة السادسة من «الفيلم الرئاسي الطويل»، فإن ما سيميّزها هذه المرة أنها تأتي على وقع مناخ جديد ساد هذا الاستحقاق منذ إعلان «حزب الله» بلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله وعدد من مسؤوليه زعيمَ «تيار المردة» سليمان فرنجية مرشّحاً مع «وقف التسمية بالاسم» بناءً على مواصفات اعتُبرت «مفصَّلة على قياسه» وبـ «مسطرة» طمأنة المقاومة وعدم طعنها في الظهر.
وارتسمت في الساعات الماضية مؤشراتٌ إلى أن «حزب الله» وضع خطة للمدى المنظور تقوم على أن فرنجية هو المرشح «رقم واحد» من دون النزول به إلى حلبة التسمية في البرلمان، ومع صعوبةِ الجزم حتى الآن بأنه سيكون «المرشح الوحيد ومهما طال الزمن».
وبحسب أوساط مطلعة في بيروت، فإن «حزب الله» يُكْثِر من الإشاراتِ إلى أنه لن يوصل فرنجية أو يخوض معركته «غصباً عن» رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل وذلك على قاعدة «هذه يد وهذه يد» - في استحضارٍ معدَّلٍ لمقولة «هيدي عين وهيدي عين» (بين فرنجية والرئيس ميشال عون) التي طبعتْ مرحلة انتخابات الرئاسة (2016) التي انحاز معها الحزب إلى عون - وذلك على قاعدة أن يكون باسيل وفرنجية «يداً بيد» في استحقاق 2022.
وفي رأي الأوساط أن الحزب يُعطي للمدى المنظور فرصةً لباسيل ليقتنع بخيار فرنجية، بوصْفه الوحيد الذي «يمون» عليه بما يكفي ليلعب دور «بوليصة التأمين» معه تجاه رئيس «التيار الحر» والضمانات التي يريدها لحفظ موقعه في العهد الجديد، من دون أن يكون ممكناً التكهّن بما بعد هذه المرحلة إذا أصرّ باسيل على رفْضه السير بزعيم «المردة» على ما هو الحال اليوم.
وفي حين يسود انطباعٌ لدى «حزب الله» بأن رفض باسيل لفرنجية «ليس نهائياً»، وسط اعتبار بعض الدوائر أنه قد يكون بالإمكان «الاستعانة بصديق مشترك» لردم الهوة بين الرجلين هو الرئيس السوري بشار الأسد الذي أعلن رئيس «التيار الحر» أنه سيزوره في المرحلة المقبلة، فإن الأوساط المطلعة ترى أن ثمة عوامل أخرى تحت سقف لعبة «الإنهاك» الداخلية قد تلعب دوراً في الدفع نحو إيصال زعيم «المردة» وبينها انتقال باسيل من الفيتو الحاسم إلى وضعية «عدم الممانعة» بالتوازي مع محاولات إنضاجِ عمليات swap سياسية برعاية بري تجذب رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط إلى هذا الخيار والتخلي عن مرشح غالبية المعارضة حتى الساعة ميشال معوّض، وإن كان لمثل هذه الاستدارة الجنبلاطية بحال حصلت إطار منفصل من الضمانات.
وفي السياق نفسه، يجري رصْد إدارة باريس محركاتها في اتجاه عواصم عدة بينها الرياض في مسعى لتوفير تقاطعاتٍ اقليمية - دولية حيال الملف الرئاسي ومجمل الوضع اللبناني، وسط رهانٍ على «يأس» خارجي من الانسداد الرئاسي بما يتيح استيلاد رئيسٍ يكون «امتداداً للأزمة»، وفي ظلّ معلومات يتم ترويجها عن محاولات فرنسية لإرساء مقايضة بين رئيس من 8 مارس ورئيس حكومة من مناخِ ما كان يُعرف بـ 14 مارس، وهو ما تعتبر الأوساط المطلعة أنه ما زال أقله حتى الساعة يصطدم بموقفٍ لـ «حزب الله» يعتبر أن لا الموازين الداخلية، السياسية و«الميدانية»، تجعله يُقْدم عليه، ناهيك عن أن موقع الرئاسة الأولى على أهميته لا يستأهل «إهداء» رئاسة الحكومة للآخَرين.
وفي موازاة ذلك، استوقف الأوساط نفسها إعلان الرئيس ميقاتي «حتماً أتمنى أن يكون سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية» وذلك قبيل إحياء اجتماعات «رؤساء الحكومة السابقين» الذي ضمّه الى الرئيسين فؤاد السنيورة وتمام سلام.
ورغم أنه لم يكن ممكناً «إسقاط» تأييد ميقاتي لانتخاب فرنجية على هذا الاجتماع، فإنّ علامات استفهام طُرحت حول إذا كان موقف رئيس حكومة تصريف الأعمال مجرّد خيار شخصي ويعكس «تقدُّمه» صفوف المرشّحين لرئاسة اولى حكومة العهد الجديد، أم أنه يعبّر عن مزاج سني عام بات يميل نحو زعيم «المردة»، وهو ما يطرح تالياً السؤال حول هل قاطَع ميقاتي إعلانه هذا مع مناخاتٍ خارجية معيّنة لأن العكس سيعني «القطْع» معها.
على أن الموقف الذي صدر عن اجتماع رؤساء الحكومة السابقين والذي بدا وكأنّه عاود وضْع المكوّن السني على طاولة تحديد اتجاهات الاستحقاق الرئاسي، بعد مواصفات نصر الله والمواصفات المضادة للكنيسة المارونية، حدّد مبادىء يجب أن يتحلى بها الرئيس العتيد ويلتزم بها وبينها «أن يؤْمن ويُسهم مع المؤسسات الدستورية في التمسّك بحسن تطبيق وثيقة الوفاق الوطني والعمل الدؤوب على استكمال تطبيقها. وكذلك التزام الاحترام الكامل للدستور ولقيم السيادة والجمهورية، وللنظام الديموقراطي البرلماني اللبناني، ولمبدأ فصل السلطات ولتوازنها وتعاونها، ولاستعادة الدولة لدورها ولهيبتها وسلطتها الكاملة على أراضيها ومؤسساتها ومرافقها (...)».
وفي إطلالة هي الأولى على الاستحقاق المتمّم للانتخابات الرئاسية، أكد المجتمعون «وجوب أن ينبثق عن ذلك حكومةٌ جديدةٌ، تتمتع هي ورئيسها وأعضاؤها بالرؤية والإرادة والقيادية والشجاعة والصدقية من أجل أن يستعيد اللبنانيون الثقة بدولتهم، ونظامهم الديموقراطي البرلماني ونظامهم الاقتصادي الحر، ويستعيد لبنان بالتالي ثقة الأشقاء والأصدقاء به وبمستقبله، بما يمكن البدء بوقف الانهيار واستعادة النهوض المنشود».
وأثنوا على «الجهد الذي تقوم به الحكومة في مرحلة الشغور الرئاسي بهدف متابعة تسيير شؤون الدولة والمواطنين واستكمال العمل لحل الأزْمات المتراكمة التي يعانون منها».