أُنجزتْ أمس مَراسمُ وضْعِ لبنان في فم فراغٍ بدايتُه معروفة ولكن نهايتَه تبقى برسْم المجهول المفتوح على... «كل الشرور».
1 نوفمبر 2022 انطلقتْ رسمياً ولايةُ شغورٍ تم «إيداعُ» لبنان في قلبه، في مشهدية حزينةٍ لفت القصر الرئاسي وبدت كأنها «حفل وداع» لجمهوريةٍ تنكّس استحقاقاتها الدستورية وتستكين خلف قوس أزماتٍ تلتف حول عنق دولةٍ تتحلّل ولا مَن يجد الحلول.
ومع «احتفالية الشغور» التي أُقفل معها مكتب رئيس الجمهورية وقاعة مجلس الوزراء وأخواتها والجناح الرئاسي قبل إنزال العلم اللبناني المنصوب فوق مدخل القصر عن ساريته و«صمْت» النافورة التي لا تُدار إلا في حضرة شاغل الكرسي الأول، تكون اكتملتْ فصول تدشين «عهد الفراغ» الذي بات وراء الجميع، تماماً كالإشكالية السياسية التي افتُعلت حول دستوريةِ أن ترث صلاحياتِ الرئاسة حكومةُ تصريف أعمالٍ باتت البلاد واقعياً في عهدتها.
ولم يكن عابراً أن يَتَبَدَّدَ سريعاً مفعولُ توقيع الرئيس السابق ميشال عون عشية انتهاء ولايته مرسوم اعتبار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (المستقيلة حُكْماً منذ ما بعد انتخابات مايو النيابية) مستقيلةً وسط نأي كل القوى السياسية عن هذه الخطوة وعدم توفير غطاءٍ لها، وهو ما سيُلاقيه البرلمان دستورياً غداً في جلسة تلاوة رسالة عون التي وجّهها إلى مجلس النواب (الأحد) في محاولة لنزْع الشرعية عن تولي حكومة تصريف الأعمال مهمات الرئاسة الأولى والتي دعا فيها أيضاً لسحْب التكليف من ميقاتي لتأليف الحكومة الجديدة.
وإذا كان موضوع سحب التكليف، الذي لم يكن البرلمان أصلاً في وارده، «تجاوزه الزمن» باعتبار أن تشكيل حكومة جديدة طواه الشغور الرئاسي وغياب الشريك الدستوري في مسار التأليف (رئيس الجمهورية) وأن انتخاب رئيسٍ جديد سيستوجب «تصفير» ملف التكليف والتأليف، فإن دورَ حكومة تصريف الأعمال في إدارة مرحلة الشغور تحوّل سريعاً بمثابة أمر واقعٍ كرّسه غطاء عربي لميقاتي جرى التعبير عنه في الاستقبال الرسمي الذي لقيه في الجزائر حين وصل إليها لترؤس وفد لبنان إلى القمة العربية كما في لقاءاته على هامشها، في موازاة تسليم دولي، أممي وأوروبي، باعتبار الحكومة المستقيلة آخِر «صمامات الأمان» أمام انزلاقِ البلاد إلى الارتطام المميت.
ويسود تَرَقُّب داخلي لردّ فعل عون وفريقه على «تقليم أظافر» خطوتيْه في ما خص مرسوم إقالة الحكومة المستقيلة ومخاطبة البرلمان، ونْزع «أنيابِ» التلويح بتحويل حكومة تصريف الأعمال مبتورةً بمقاطعة الوزراء المحسوبين على الرئيس السابق مَهماتهم ضمن وزاراتهم، وسط ملاحظةِ أن «حزب الله» اختار تموْضعاً وسطياً بين حليفيْه الرئيس نبيه بري و«التيار الوطني الحر» (حزب عون)، إذ سلّف الأخير - الذي يخوض معركة استنهاضٍ سياسية وشعبية لقواعده تقوم على التصويب على بري وميقاتي (وحزب «القوات اللبنانية») - موقفاً «غير قابل للصرف» لجهة رفْض المشاركة في أي جلسة لحكومة تصريف الأعمال «الرئاسية»، وهو ما يؤكد ميقاتي أصلاً أنه لن يحصل إلا في حالات الضرورات القصوى.
وإذ يبرز اقتناعٌ بأن فريق عون وتحديداً رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لن يتخلّى عن سياسة الهروب إلى الأمام في معركةٍ ستدور ابتداءً من الخميس، وبعد إقفال صفحة الرسالة إلى البرلمان، على الجبهة الرئاسية «الصافية»، وسط خشيةٍ من افتعال «اشتباكات جانبية» جديدة تستدرج فوضى شاملة إما منظّمة لجرّ الآخرين على وهجها إلى شروطه الرئاسية، سواء تعزيزاً لحظوظ باسيل المرشح مع وقف الإعلان وإما لمَن يزكيه، استوقف أوساطاً سياسية «عرض الدقائق الأخيرة» (أول من أمس) قبل انتهاء ولاية عون الذي حمله المدير العام لرئاسة الجمهورية انطوان شقير إلى ميقاتي وقضى باصدار مرسوم جديد بتشكيل الحكومة، وفق ما هي عليه حالياً، عدداً وأسماء وحقائب لكن مع عدم إعطاء ضمانة بمنحها الثقة.
وفي حين جاء ردّ الرئيس المكلف هذا الطرح «مع الشكر» معلناً «هناك طائرة تنتظرني (إلى الجزائر)» ليعكس رفْضه الوقوع في «فخ» منْح باسيل ورقةَ «اللعب على حبليْ» الموالاة والمعارضة وتحويل الحكومة «كيس ملاكمة» في الملف الرئاسي وجعْلها عرضةً لغياب الغطاء المسيحي بامتناع الكتل المسيحية الوازنة (كلٌّ لاعتباراته) عن منْح بالثقة النيابية لها، فإن ما وُصف بـ «المناورة الأخيرة» اعتُبر في إطار محاولة رمي كرة إحباط تأليف حكومة كاملة المواصفات في ملعب الرئيس المكلف تمهيداً لمسار تصعيدي سيمضي به التيار الحر ورئيسه.
وجاء لافتاً في غمرة تحضير الأرضية لمكاسرة داخلية ضارية، رفْع الاتحاد الأوروبي «عصا» العقوباتِ بإزاء مرعقلي الخروج من الأزمة اللبنانية، وفق ما عبّر عنه بيان الممثل الأعلى للاتحاد جوزيب بوريل الذي أعلن أنه في «31 كتوبر انتهت ولاية الرئيس عون، وبعد أربع جلسات غير حاسمة لمجلس النواب، لم يتم انتخاب أي مرشح ورئاسة الجمهورية اللبنانية شاغرة الآن».
وفيما لاحظ أنه «منذ الانتخابات العامة الأخيرة في مايو الماضي، لم يتم تشكيل حكومة»، قال: «يحدث هذا الفراغ السياسي في وقت يواجه لبنان وضعاً اجتماعياً واقتصادياً متدهوراً. ومن شأن التقلبات المؤسسية المصحوبة بعدم الاستقرار الاقتصادي أن تشكل مخاطر جسيمة على لبنان وشعبه».
وإذ اكد دعوة «الاتحاد الأوروبي مرة أخرى القيادات اللبنانية إلى تنظيم انتخابات رئاسية وتشكيل حكومة بأقصى سرعة»، قال: «في يوليو الماضي، جدد الاتحاد الأوروبي إطار عقوبات يسمح بفرض إجراءات تقييدية على الأفراد أو الكيانات التي تمنع الخروج من الأزمة اللبنانية. وبهدف تسهيل صرف التمويل الدولي الإضافي وكبح الاتجاه المتدهور للاقتصاد اللبناني، يجب التوصل إلى اتفاق تمويل مع صندوق النقد الدولي. ويجب إنجاز الإصلاحات الرئيسية التي طال انتظارها دون مزيد من التأخير».
وفي الإطار نفسه عبّرت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا «عن قلقها من احتمال امتداد الفراغ، وتدهور الوضع، لا سيما أن البلاد لا تزال تعاني من تأثير الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والمالية التي طال أمدها».
وشددت في تصريحات لـ«العربية.نت» على «أن معالجة هذه التحديات الرهيبة تتطلّب انتخاب رئيس جديد بسرعة وتشكيل حكومة»، لافتة تعليقاً على دعوة بري إلى جلسة حوار من أجل انتخاب رئيس «أن الدعوات إلى حوار يمكن أن تؤدي إلى نتائج ناجحة».
كما اعتبرت أن «الحوار ضروري أيضاً لتجنّب الاستقطاب وسوء الفهم وتصاعد التوترات»، مشيرة إلى «أن الحلول المستدامة يمكن أن تأتي فقط من داخل لبنان والأمم المتحدة على استعداد دائم لتقديم الدعم، لكنها لا تستطيع أن تحل محل الدولة أو أن تنتحل لنفسها الامتيازات السيادية التي تخصّ الدولة اللبنانية».
وأوضح جمال رشدي المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبوالغيط الذي التقى ميقاتي أمس في الجزائر «أن اللقاء مع رئيس الحكومة اللبنانية تناول مجمل الوضع اللبناني، بما في ذلك التطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها الساحة اللبنانية قبيل الدخول في فترة الشغور الرئاسي، حيث اعتبر أبوالغيط أن استمرار الشغور الرئاسي لفترة قد يطول أمدها، سيكون له تبعات سلبية على لبنان في ظل التحديات الراهنة التي تواجهه».
وأكد أبوالغيط «دعم الجامعة العربية الكامل للدولة اللبنانية من أجل تجاوز هذه المرحلة الدقيقة»، مشدداً على «أهمية اضطلاع الحكومة الحالية بالإصلاحات الضرورية المطلوبة، وفي ذات الوقت اضطلاع السياسيين اللبنانيين بمسؤوليتهم وضرورة إعلاء المصلحة الوطنية فوق أي اعتبارات أخرى وصولاً لتوافقات تفضي إلى انهاء الانسداد السياسي والحيلولة دون الدخول في فراغ رئاسي لا تتحمله البلاد».
بدورها دعت الخارجية الفرنسية «البرلمان اللبناني إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد دون إبطاء»، مطالبة السياسيين «بتحمل مسؤولياتهم وأن يكونوا على مستوى المرحلة، لما فيه مصلحة لبنان واللبنانيين».
وإذا كان موضوع الحوار الذي دعا إليه بري لملء الوقت الضائع في الملف الرئاسي سيطغى بدوره على المشهد السياسي، فإن البارز أيضاً كان تأكيد السفير السعودي في بيروت وليد بخاري خلال جولة في البقاع أن «العلاقات بين السعودية ولبنان ستتجه نحو الأفضل، بعد انتخاب رئيس سياديّ جديد للجمهورية اللبنانية وتشكيل حكومة جديدة، ما يعيد ثقة المملكة ومجموعة دول أخرى مهتمة بالملف اللبناني».
ميقاتي... لا استفزاز
وكان ميقاتي قال في حديث مع شبكة «سكاي نيوز عربيّة» إن «صلاحيات رئيس الجمهورية لا تعود بموجب الدستور الى رئيس الحكومة، بل الى مجلس الوزراء، وسنعمل على إدارة شؤون البلاد من دون استفزاز، ولكن الأولوية تبقى لانتخاب رئيس جديد للبلاد وتأليف حكومة جديدة، وأن يكون التعاون والانسجام قائماً بينهما. ومن هذا المنطلق سيبقى تعاوننا مع المجلس قائماً وفاعلاً».
وعن احتمال دعوته مجلس الوزراء الى الانعقاد، قال «إذا لم يكن من موجب وطني أساسي وملحّ فإنني لن أدعو الى جلسة لمجلس الوزراء وسنستمر في تصريف الأعمال بشكل عادي. وفي حال استجدّ أي أمر طارئ فسأقوم بالتشاور المسبق مع المكوّنات التي تتشكل منها الحكومة قبل اتخاذ أي قرار».
وحول احتمال مقاطعة بعض الوزراء الدعوة لانعقاد مجلس الوزراء، رد «إذا كان النصاب مؤمّناً تنعقد الجلسة وتُتخذ القرارات بأكثرية الثلثين. وأتمنى أن يكون التعاون من قبل الجميع لتمرير هذه المرحلة الصعبة».
وعمّا إذا كانت حكومة تصريف الأعمال مخوّلة استكمال توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، أجاب: «لقد وقّعنا اتفاقاً أولياً مع صندوق النقد الدولي، وللتوقيع النهائي ينبغي استكمال تحقيق أربعة بنود. حتى الآن، أقر مجلس النواب القوانين المتعلقة بالبنديْن الأوليْن، وفي حال استكمال إقرار القوانين المتعلقة بالبندين الثالث والرابع في ما يتعلق بالتحويلات الى الخارج وهيكلة المصارف، فهذا يعني موافقة ضمنية على توقيع الاتفاق النهائي».
وتابع «الوضع صعب. باب الحل يتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وفي كلمتي الأربعاء (اليوم) أمام القمة العرببة سأوجه نداءً من القلب الى الاخوة العرب لعدم ترك لبنان ومساعدته على تجاوز محنه».