على وقع أناشيد 1989 و«عونك جايي من الله»، وأغنية عن عون المُغادِر قصر بعبدا «ليسكن قلوب الناس»، احتشد مناصرو «التيار الوطني الحر» في محيط القصر الجمهوري للمرة الأخيرة بعدما حوّلوا الطريق طوال ستة أعوام ملعب خيلهم، فكانوا في كل مرة، ولا سيما منذ تظاهرات 17 أكتوبر 2019، يتعاملون معها وكأنها «الحديقة الخلفية» للتيار كما كانت حالهم حين تحوّل المقر الرئاسي إلى قصر الشعب في أواخر الثمانينات.
لم يرفعوا هذه المرة شعارات «عون راجع» لكنهم أطلقوا «زمّور الجنرال» الذي اشتهر في التسعينات، ورفعوا أعلام التيار وارتدوا القمصان البرتقالية.
التدابيير الأمنية كانت في حدها الأدنى، والرايات البرتقالية غطت الطريق ورفرفت في باحات القصر الذي تحوّل قاعدة حزبية في حضور مسؤولي التيار ونوابه وجمهورٍ شعبي لا يزال يناصر عون.
والأناشيد الحماسية والمواكَبة التلفزيونية، ومشاعر العونيين والدموع التي ذرفوها لمغادرة عون، جعلت اليوم ما قبل الأخير من ولايته حافلاً، قبل أن يعود قصر بعبدا بحراسة الحرس الجمهوري وإمرة قيادة الجيش هادئاً، صامتاً، من دون رئيسٍ للجمهورية.
صباحٌ حافل بالاحتفالات العونية في مقابل حملاتِ السخرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يكن يوماً عادياً على هذه المواقع التي شنّ فيها المحتفلون بمغادرة عون القصر، هجمات لاذعة ونكاتٍ مع ترحيب بخروج عون وانتهاء عهده.
وكان لافتاً سيل التعليقات على منصات المجتمع الافتراضي التي تحوّلت متنفّساً للبنانيين في مواجهة قوى السلطة منذ احتجاجات 17 اكتوبر، وقد جمعت متناقضين في السياسة توحّدوا على «التبريك» بطي صفحة عون رئيساً، من سياسيين وفنانين وإعلاميين وكوميديين وناشطين في مواقع التواصل ومحازبين في تيارات على خصومة مع عون، ناهيك عن التعليقات الكثيرة على خطابه الذي تحدث فيه عن محاربة الفساد وضياع أموال المودعين.
ذلك ان يوم مغادرة «الجنرال» قصر الرئاسة مودّعاً حقبة ست سنوات، جاء من دون خطابٍ رئاسي، ولو ان الرئيس خَطَبَ في المحتشدين على منصة رسمية.
ومن علامات مغادرة عون بعبدا، أنه خرج من القصر رئيس حزب وليس رئيس جمهورية، رغم أن شكل الوداع والموسيقى التي عزفت والتحية التي أديت له كانت ذي طابع رئاسي.
لكن عون المغادر الى قصر ثان في الرابية، أبى إلا أن يكرّس حجم الخلافات السياسية ويعطي لنفسه بعداً مختلفاً عن رئيس يغادر على وقع أهازيج مناصريه واحتفالات خصومه.
مرة جديدة أراد عون ان يعلن اختلافه عن الآخَرين، والقيام بخطوة استفزازية جدية تتعلق بقبول استقالة الحكومة بعدما كان مكتب الاعلام في القصر سابقاً نفى في شكل رسمي احتمال قيامه بهذه الخطوة.
لكنه أيضاً أعطى لمغادرته طابعاً حاداً ضد خصومه، فكان في خطابه موجِّها الاتهامات ومتحدّثاً عن تفاصيل يومية في الحياة السياسية تعبّر عن برنامج عمل رئيس التيار النائب جبران باسيل في إدارته ملفات الترسيم البحري والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت.
لم يكن خطابَ رئيسٍ للجمهورية يستودع البلاد ويودّع القصر من دون أن يسلّم خليفته مقاليد الرئاسة.
ولم يكن خطاب رئيس عرف عهده أسوأ الأزمات وأشدها قسوة، ولم يكن خطاباً يعترف فيه الرئيس بأخطاء ارتُكبت.
بل كان خطاب الجنرال عون «المنتصر» في معارك، منها ما خسر فيها ومنها لم تحصل، وكأن باحة القصر أعادت اليه ذكريات الخطب النارية يوم كان يشنّ حرب التحرير والالغاء أمام جمهور يقدّم اليه المال والذهب والأرواح لمبايعته.
كرّس عون في مغادرته انقساماً جديداً بين مؤيديه وخصومه وهم قسمان.
فالخصوم المسيحيون ولا سيما «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب، تصرّفوا بوعي لافت حين دعوا مناصريهم إلى عدم الانجرار وراء التحديات والاحتفال بمغادرة عون. وخصوصا أن مَواكب التيار وعون مرّت في مناطق نفوذ الطرفين. لكن ذلك لم يمنع المناصرين من ان يملأوا الفضاء الافتراضي عبارات التهليل لانتهاء العهد.
أما الخصوم السياسيون الآخَرون فبرز منهم في شكل لافت حركة «أمل» (بقياد الرئيس نبيه بري) التي عبّرت محطتها التلفزيونية«ان بي ان» عشية مغادرة عون وفي شكل مفاجىء ولافت عن ترحيبها بمغادرته وباسيل القصر الجمهوري وانتهاء العهد.
اليومُ العوني في بعبدا كان كذلك يوم باسيل الذي تنقّل بين المحتشدين منذ مساء يوم الاحد، يوزّع تصريحاته ويحدد أهداف معركة ما بعد انتهاء العهد.
من بعبدا غادر عون في سيارة الرئاسة وغادَر باسيل الى الرابية لاستقباله، ومواكبته في اليوم الأخير رئيساً.
لكن من الصعب تجاوز اليوم الأخير من دون تبعات.
فالمغامرات السياسية التي تركها عون وراءه منذ سنوات قليلة أصبحت من حصة باسيل الذي أعطاه «الجنرال» حزباً سياسياً وأورثه قاعدة شعبية وبارَكه مرة تلو اخرى وريثاَ وحيداً.
انتهى عهد عون. ست سنوات من عمر وطن أصبح مشلعاً وفقيراً ومجروحاً ومقهوراً بفعل انفجار المرفأ وسقوط شهداء وجرحى.
وانتهى على وقع احتفالٍ بالنصر.
هل هو نصر الترسيم البحري والتوقيع مع إسرائيل؟ أم هو انتصار على اللبنانيين بأن عون أتمّ السنوات الست كاملةً ولم يَسقط على وقع التظاهرات وعداء أكثر من نصف اللبنانيين له؟ أم أنه نصر جديد بأن باسيل عزّز حظوظه بعد الترسيم فعاود عون ترشيحَه لخلافته؟