«الراي» تَقَصَّتْ الحقائق مع «تَفَشّي» المَخاوف على صادراته

الكوليرا في لبنان تُقْلِق القطاع الزراعي والمعنيون يُطَمْئنون إلى سلامة الخضار والفواكه

26 أكتوبر 2022 02:25 م

لم يكن لبنان «الموبوء» بهذيانٍ سياسي وتَقَهْقُرِ المؤسسات وبأعتى أزمةٍ مالية - اقتصادية على مرّ عصور، طوى الصفحاتِ السود لـ «كورونا» اللعين حتى دهمتْه الـ«كوليرا» الخبيثة، وكأن قدَره الإستمرار «صريعاً» في لعبةِ «سباقِ البدَل» بين السيء والأسوأ في واقعه السياسي كما المالي والصحي والتربوي.

الدولةُ الغائبة عن السَمَع وعن «الوعي» لم تتحوّط مع الإنتشار المريع للكوليرا في سورية، تركت حدودها مفتوحة على غاربها ذهاباً وإياباً، فكان الانتقال السريع للعدوى إلى مخيمات النازحين المترامية، ولا سيما في الشمال والشرق، ومن ثم تَدَحْرَجَ المرض، الذي غالباً ما يتسلل مع المياه والخضر وسوء النظافة.

وعلى غرار نشرة «كورونا» اليومية دأبتْ وزارة الصحة اللبنانية على بثّ نشرة عن الحصيلة اليومية للإصابات الجديدة والتراكمية للكوليرا والوفيات التي صارت شبه يومية، حاصدة لبنانيين وسوريين من غير منطقة على الجغرافيا اللبنانية التي أصبحت مرقّطة بالدوائر الحمر.

ورغم تعدُّد الأسباب للإنتشار السريع للكوليرا، كتلوّث الأنهر والمجاري وتوقف محطات التكرير لانعدام الكهرباء، فإن النتيجة واحدة... غزوةٌ جديدة لوباءٍ لا يرحم في ظل التقهقر المتمادي للواقع الصحي في لبنان، مستشفيات، مستلزمات طبية، أدوية، لقاحات وما شابه.

غير ان قطاعاً حيوياً «يعيل» مناطق وفئات وعائلات، قد يدفع الثمن غالياً، هو القطاع الزراعي الذي صار سريعاً تحت المجهر نتيجة ما يشاع عن ريّ مساحاتٍ بالمياه المبتذلة بسبب إنهيار البنى التحتية. وسط دعواتٍ لـ «مقاطعة» الحشائش كونها من أكثر الوسائل «رواجاً» للإصابة، باعتبارها ضيفاً دائماً على المائدة اللبنانية التي لا تخلو يومياً من صحن «تبولة» أو «فتوش».

«الراي» تتقصى...

والأكثر حساسية في هذا السياق هو الخشية من لجوء دولٍ مستوردة للخضر والفاكهة اللبنانية إلى حظْرها تَحَسُّباً، وهو الأمر الذي يثير مخاوف المزارعين اللبنانيين الذين يُطَمْئنون إلى «صحة» مياه الريّ لمحاصيلهم وسهَرهم الدائم على حماية مُنْتَجاتهم وأسواقها.

«الراي» قصدتْ اختصاصيين في المجاليْن الزراعي والصحي للوقوف على حقيقة تلوُّث المزروعات اللبنانية ببكتيريا الكوليرا، والسبب وراء إطلاق التحذيرات من ضرورة تجنب تناول الحشائش الخضراء التي أثارت الخوف في نفوس المواطنين اللبنانيين.

آبار نقية للمزروعات

رئيس تجمع المزارعين والفلاحين في البقاع ابراهيم ترشيشي أكد لـ «الراي» أن «مرض الكوليرا ما زال بعيداً كل البُعد عن المناطق الزراعية في البقاع، فإنتشار المرض محصور بقاعياً في منطقة عرسال الحدودية مع سورية أو في بعض مخيمات اللاجئين السوريين بعيداً عن أماكن الزراعة». وقال: «رغم بدء ظهور حالات في مناطق مختلفة، إلا أننا لم نسمع مطلقاً عن إصابات ناجمة عن تناول الخضر. فلو كان الأمر كذلك لَما إقتصرت الإصابات على شخص أو اثنين أو حتى عشرة في هذا المكان أو في آخَر بل كان عدد الإصابات إرتفع في شكل كبير نتيجة إصابة كل مَن تناول مِن هذه الخضار. ولكن لحسن الحظ لم نسمع حتى اليوم بأي إصابات بالكوليرا سواء في منطقة البقاع أو عكار نتيجة تناول الخضر أو الفاكهة اللبنانية».

ورفض ترشيشي رفضاً قاطعاً الأصوات التي تعلو مشكِّكة في نظافة مياه الري والقول إنه يصار إلى إستخدام المياه الآسنة لري المزروعات. وأشار إلى انه «إتهام ظالم للزراعة اللبنانية»، موضحاً ان «كل المزارعين يستخدمون الآبار الإرتوازية للري وذلك بسبب غياب الينابيع والأنهر الجارية وجفافها بدءاً من شهر يونيو وحتى نهاية الصيف وهي التي تحمل عادة الملوِّثات ولا سيما الناجمة عن الصرف الصحي الذي لم تجد له الحكومةُ حلاً حتى اليوم».

وأضاف: «كل الزراعة في منطقة البقاع تعتمد على الآبار الإرتوازية التي يراوح عمقها بين 200 متر و300 متر تحت الأرض ولا يصيبها أي تلوث أو صرف صحي. ونهر الليطاني الذي كان يُعتمد في السابق لري المزروعات لم يعد له وجود حالياً وممنوعٌ إستعمال مياهه للريّ منعاً باتاً، وأي فرد يعمد إلى سحب المياه من النهر يُجازى ويُلاحَق من الأجهزة الأمنية».

ولفت إلى أن «محافظ البقاع كان أصدر قراراً يمنع المزارعين من إستخدام ما تبقى من الليطاني لري مزروعاتهم، ومن يتبين قيامه بذلك تُتلف مزروعاتُه ويُعاقَب بالسجن. وقد بات كل المزارعين واعين لهذا الأمر ويشيرون بالإصبع على كل مخالف ويقفون له بالمرصاد».

وبلهجة لا تخلو من العاطفة والإنفعال أكد ترشيشي ان «المُزارع هو أول مَن يتناول مع عائلته مِن منتجات أرضه فكيف يَستخدم مياهاً ملوَّثة للريّ ويضرّ بعائلته وأهل بلدته ومنطقته؟... وكل المنتجات الزراعية معروفة طرق تصريفها: أي أين تباع ولمَن تباع ومِن قِبل أي مُزارع، ولذا يمكن تَقَفّي أثرها في حال الإشتباه بكونها ملوَّثة أو مسبِّبة للأمراض ولا سيما أن البلد صغير ولا يمكن لأحد الإختباء فيه من تهمةٍ كهذه».

ويعود رئيس تجمّع المزارعين في البقاع ليؤكد أن «كل منطقة البقاع تعتمد على الآبار الإرتوازية لا على المياه الجارية، ولذلك رَفَعَ المزارعون الصوتَ عالياً إثر غلاء سعر المازوت وذلك لأنهم يعتمدون على هذه المادة لتشغيل مضخات المياه لري المزروعات. فلو كان المزارعون يعتمدون المياه الجارية لَما تَكَبَّدوا كلفة المحروقات ورفعوا الصوت في وجه غلاء أسعارها».

ويؤكد ترشيشي أن «الأمطار التي هطلت بغزارة في نهاية الأسبوع شكلت رحمة للمزارعين وخففت عنهم عناء ري مزروعاتهم كما شكلت نعمة حقيقية للمزارعين والمستهلكين ليتناولوا خضاراً نظيفة مروية بماء السماء. وفي شكلٍ عام فإن الموسم الزراعي في البقاع شارف على نهايته ولم يعد أمامه إلا شهر قبل الإنتقال إلى الساحل فيما يخص الخضار التي يصبح إنتاجها محصوراً في البيوت البلاستيكية».

الحيطة و... الحذر

أما في منطقة عكار المُتَّهَمة أكثر من سواها بتلوّث المياه فيها وباستخدام المياه الملوَّثة لري المزروعات فيقول أحد المهندسين الزراعيين إنه «معروف ان مناخ عكار الحار صيفاً ليس ملائماً لإنتاج الحشائش والخضار المختلفة التي تُزرع فقط في البقاع في هذه الفترة من السنة. أما شتاءً فتصبح مياه الري أكثر وفرة سواء عبر الأمطار أو الأنهار ولا يعود المزارعون بحاجة إلى استخدام مياه ملوَّثة ولا سيما في البيوت البلاستيكية. لا بل أن أي مياه غير نقية قد تساهم في سد أنابيب الري المستخدمة في البيوت البلاستيكية وتعطيل عملية الإنتاج».

إذاً لا شيء مخبأ والأرقام واضحة وشفافة وحالات الكوليرا تُعلَن يومياً بالأسماء والمناطق ولا تعتيم على أي خبر حتى اليوم أو تورية للحقائق والإعلام اللبناني بالمرصاد بحثاً عن الحقيقة. لكن هذا لا يمنع من رفع الصوت من المراجع الصحية المختصة بوجوب الحذر وإعتماد أقصى درجات الوقاية والنظافة الشخصية وكذلك من إرتفاع أصوات تحذر من تلوث مياه الري رغم تطمينات المزارعين.

مصلحة الأبحاث العلمية والزراعية بشخص رئيسها المهندس ميشال فرام كانت قد أطلقت تحذيرات حول واقع المياه في لبنان وأصدرت توصيات حول وجوب فحص مياه الآبار الإرتوازية التي تُستخدم في الري لأن غالبيتها مختلط بمياه المجارير الآسنة، ومنْع إستخدام مياه الأنهر للريّ لأنها بدروها ملوَّثة لا سيما نهر الليطاني.

ويؤكد افرام ان سقوط الأمطار سيؤدي إلى تَفاقُم مشكلة تلوث المياه بدل التخفيف منها، لأن أقنية مياه الأمطار وتمديدات المجارير مغلقة بالأوساخ المتراكمة فيها وتَساقُط الأمطار سيؤدي إلى فيضانها وتَكَوُّن برك وسيول ملوَّثة بالمياه الآسنة تساهم في إنتشار التلوث بالمجارير سواء في الشوارع أو الأراضي الزراعية، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى إنتشار أكبر للأمراض مثل الكوليرا واليرقان وغيرها. من هنا تطلب المصلحة «وحرصاً منها على سلامة المواطنين وجوب تعقيم كل أنواع الخضار قبل تناولها لأنها قد تحمل أنواعاً مختلفة من الباكتيريا نتيجة ريها عن قصد أو غير قصد بمياه ملوَّثة».

من جهته يقول المهندس الزراعي مروان غوش إن «ري المزروعات في مناطق كثيرة من لبنان يتم كما هو معروف بمياه الأنهر الملوَّثة بمياه المجارير الآسنة والتي تحتوي على أنواع من البكتيريا مثل الإيكولاي و Vibrio Cholerae وغيرها، كما تحتوي على معادن ثقيلة كالرصاص وملوثات كيميائية مُسَرْطِنة تفْرزها المصانع التي تصبّ نفاياتها في الأنهر. وتزداد خطورة هذه المياه متى رُشت على أوراق النباتات لا سيما تلك التي تؤكل نيئة مثل الحشائش كالبقدونس والنعناع والكزبرة والجرجير والملوخية والسبانخ إذ تقبع البكتيريا مباشرةً على الأوراق وتَدخل السموم الناجمة عن التلوث الكيميائي إلى داخل الأوراق بحيث لا ينفع معها غسلها. ومن هنا رفع الصوت بضرورة تجنُّب إستهلاك هذه الحشائش نيئة وغسل باقي الخضار جيداً وتعقيمها قبل إستهلاكها».

ويبقى السؤال الأخير هل يتم تصدير الخضار المشكوك فيها إلى البلدان المجاورة؟ إجابةً على ذلك يؤكد ابراهيم ترشيشي لـ «الراي» أن «الحشائش تُصَدَّر عادة بالطائرات كونها لا تحتمل السفر الطويل، ومن هنا فإنها تخضع لرقابة مشدَّدة قبل الشحن الجوي ولا سيما بالنسبة للتلوث البكتيري. فيتم فحص عيّنات من المصدر للتأكد من خلوها من أي ملوِّثات بكتيرية وبعدها يُسمح بشحن الكميات المصدَّرة. لذا يمكن القول إنه حتى اللحظة لا خطر يُذكر من تناول الخضار اللبنانية المصدَّرة إلى الخارج».