ما أشبه اليوم بالبارحة، فبعد مرور 58 عاماً تشهد الكويت الأحداث نفسها التي مرت بها في عام 1964، حيث أبدت غالبية أعضاء مجلس الأمة وقتها اعتراضهم على التشكيلة الحكومية المقترحة.
وما بين المجلسين كانت النتيجة واحدة، انحياز رئيس الحكومة لصوت الحكمة، بالجنوح للتوافق مع السلطة التشريعية، بإحداث تعديل وزاري، وهو الإجراء الذي أكد حقيقة استمرار نبض الحياة بديموقراطية الكويت.
فكلتا الواقعتين عكستا جودة المناخ الديموقراطي الذي جبل عليه أهل الكويت، بإعمال الديموقراطية بشكل فعال يحترم إرادة الشعب.
ورغم المخاوف التي صاحبت الجدال المثار حول التشكيلة الحكومية التي كانت مزمعة وتداعيات ذلك على العلاقة المرتقبة بين السلطتين، إلا أنها من ناحية ثانية زادت جرعة الثقة في متانة النظام السياسي الكويتي.
كما أكدت الأحداث الأخيرة ورغم قسوتها تميز النظام السياسي الكويتي إلى حد ما عن العديد من الأنظمة العربية، بخصائص تعزز استمرارية الانفتاح السياسي الداخلي الذي لا يزال يفرض نفسه على الحياة في جميع مراحل نشأة الكويت.
وبعيداً عن دوافع التشكيل الحكومي الذي كان مزمعاً وملابسات التعديل المقرر يبقى هناك هامش يتعين على الحكومة المقبلة ملئه بوضوح وبشفافية كاملة، عبر تبني برنامج عمل تفصيلي، على ألا يكون تكراراً لبرامج الحكومات السابقة التي ميزتها العموميات التي يصلح قولها في كل زمان ومكان لتنتهي مع ذلك جميعها قبل أن تترك أي انجاز يذكر.
وإذا كان الشيطان يكمن في التفاصيل، عبارة تشي بضرورة عدم الغرق في التفاصيل، إلا أن الصحة السياسية للحكومة تتطلب تعزيزها بتقديم برنامج عمل تفصيلي وواقعي يعكس تحركها فعلياً نحو تصحيح المسار.
ولا يعد سراً القول إنه يتعين أن يكون برنامج عمل الحكومة المرتقبة ذا طبيعة إجرائية تنفيذية، ولضمان جدية الوزراء القائمين على تنفيذه يتوجب أن يكون مصاحباً بإطار زمني محدد، مصحوباً بالإعلان عن إجراءات إصلاحية سريعة تسهم في زيادة الاستثمار، وتوليد فرص العمل، وتشجيع النمو الاقتصادي والبشري والتعليمي والصحي... الخ، من مستهدفات نسمع عنها كشعب منذ سنوات طويلة.
ومن صور جدية الحكومة في تصحيح المسار أن يتميز برنامجها المرتقب بالواقعية لجهة إمكانية تنفيذ المستهدفات، وقيامه على منهجية محددة، وقياس الأثر من الأولويات، والمحاور، والأهداف، ولعل من أكثر الأولويات الملحة التي تحتاج إلى رؤية وإستراتيجية حكومية محددة المعالم والأدوات تلك المتعلقة بالأزمة الإسكانية.
فلا يعقل في دولة مثل الكويت، صغيرة في تعداد مواطنيها، ضخمة المكانة بمواردها الطبيعية وقدراتها المالية، أن تعقيدات القضية الإسكانية تزداد إحكاماً سنة تلو الأخرى، دون أن تتوصل الحكومة إلى حلول عملية تنهي معاناة غالبية الكويتيين الحاليين والمقبلين وتضمن تجاوزهم لطابور انتظار بيت العمر الذي يزداد طولاً!
بالطبع هناك ملف آخر لا يقل أهمية عن الملف الإسكاني وهو معالجة الاختلالات الهيكلية لميزانية الكويت، حيث بات ضرورياً الإسراع نحو العمل على الانتقال باقتصاد الكويت من أحادي الدخل إلى آخر متنوع الموارد يضمن استدامة الدخل المريح للميزانية العامة.
علاوة على ذلك، يتعين على الحكومة تقديم وصفة منطقية وعملية لمعالجة التركيبة السكانية وليس للاستهلاك الشعبي، حيث المطلوب التركيز على إحداث التوازن الصحي بزيادة استقطاب الكفاءات من غير الكويتيين، مع التخلص من العمالة السائبة، ولنا في دول الجوار موعظة حيث الأعين مفتوحة على زيادة الكفاءات التي تشكل قيمة مضافة لسوق العمل.
إلى جانب ذلك يبرز ملف تطوير القطاع الصحي، وأيضاً التعليمي وكلاهما يحتاج لنفضة حقيقية تضمن تطورهما بشكل يعكس الوصول بمواقفهما إلى الجودة التي يستحقها الشعب الكويتي.
إلى ذلك، يتوجب ألا يتغافل برنامج عمل الحكومة المرتقب عن ضرورة زيادة وتيرة تحسين بيئة الأعمال المحلية، وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة الفعالة في تحقيق التنمية المستهدفة باعتباره شريكاً رئيسياً في ذلك.
الخلاصة:
ربما تطول قائمة الأولويات الحكومية في الكويت وتتنوع، وسبب ذلك أن جميعها يعكس مطالبات متراكمة ومستحقة جرى تجاوزها من الحكومات السابقة المتتالية وسط انشغالها بمواجهة ضغوط العلاقة المتصدعة مع مجالس الأمة السابقة.
ولذلك، يمكن القول بكل ثقة إن التفات الحكومة المرتقبة للأولويات المؤجلة بات يشكل استحقاقاً علاجياً لبلوغ التنمية المستهدفة، وليس رفاهية فكرية.
ولضمان جودة التنفيذ يتعين التأكيد على ضرورة تبني الحكومة لبرنامج عمل غير تقليدي يرتكز على الوضوح في تحديد المستهدفات وإجراءات التنفيذ.
ولعل الحقيقة المؤكدة في هذا الخصوص أنه من دون ذلك لن تخرج الحكومة من المربع الأول حيث استمرار تغذية آمال الشعب بمزيد من الوعود الكلامية آملاً في كسب مزيد من الوقت.
لكن الخطورة هذه المرة تتنامى حيث لم يعد أمام الحكومة المرتقبة أي وقت إضافي لإضاعته، ليكون من المفيد الإشارة إلى أنها حكومة الفرصة الأخيرة لا سيما في ظل التحديات التي نعيشها محلياً وإقليمياً والتي لا يمكن التعايش معها أكثر من ذلك.