... أي عيش في زمن الانهيار؟ سؤال لا يحتاج إلى جواب بالنسبة إلى الناس العاديين الذي اسمهم تارة «الشعب» وتارة «الجماهير». فالانهيار الذي لم يُبْقِ حجراً على حجر في المال والإقتصاد والسياسة في لبنان حوّل الناس جيشاً من البؤساء والتائهين في مجاهل الأزمات التي لا قعر لها ولا حدود، حتى صارت يومياتهم مجرد أيام سود... لا طمأنينة ولا استقرار ولا أحلام.
وإذا كان الناس العاديون تحوّلوا حَطَباً في جهنم اللبنانية، فماذا عن المثقفين والكتّاب والشعراء والفنانين و«المشاهير» في عالم الإبداع، وعن عيشهم في زمن الإنهيار وأزماته الهائلة في تأثيراتها اليومية وضغوطها وتداعياتها... هل يشكل النشاط الإبداعي مُنْقِذاً أو متنفساً أو ثقباً في الجدار أم أن الكارثة التي تستحق بجدارة لقب «التاريخية» أطبقت على الجميع في ضوء الأزمة الاخطبوطية التي جعلتْ يوميات اللبناني صراعَ بقاء مفتوحاً لتوفير الكهرباء، الماء، الرغيف، الدواء، والصمود بوجه تسونامي الغلاء الذي يزيد من «وحشيته» جنى العمر المسلوب والتدهور المستمر لسعر صرف الليرة. وإلى «العاصفة الكاملة» تضاف أمّ الكوارث المتمثلة بإنفجار مرفأ بيروت، الجريمة التي ما زالت جرحاً نازفاً في الأجساد والقلوب والضمائر.
في ظل هذه الظروف المأسوية والبائسة أي قصيدة يكتبها الشاعر وأي نص يصنعه الروائي وأي ألوان يصقلها التشكيلي و... أي خيال يستلهمه الكاتب والمثقف والمبدع؟
«الراي» أرادت تسليط الضوء على واقع «العيش في زمن الإنهيار» عبر إستطلاع يوميات مجموعة من المثقفين اللبنانيين. لكن كثراً ما استطاعوا الكلام ولم يشأوا البوح ربما قرفاً أو يأساً أو إنهزاماً أو هروباً نحو عالم الذات.
الكاتب والشاعر بول شاوول إعتذر بكلمات لخّصت حاله: «أنا في عالم آخَر، ولن أحكي في هذه المواضيع» في إشارة ربما للإنفصال الذي يود ان يعيشه المبدعون خارج الواقع.
الروائي رشيد الضعيف كان مهتماً بتوقيع روايته الجديدة التي من خلالها هزم الواقع وعاش عبر خياله في عالم بعيد عنه. أما الشاعر والناقد عبدو وازن فيلخص الأمر قائلاً ان «الأزمة تتخطى الناحية الإقتصادية وتحفر عميقاً لتطال جوهر الثقافة في لبنان».
الفنان غسان الرحباني لم يشأ أن يسمع تعليقات القراء على ما سيقوله وكأنه بذلك يحمي نفسه من السلبية التي صارت سائدة بين الناس ويعبّرون عنها من خلال تعليقات جارحة مؤذية... فنانون وممثلون آخرون كان جوابهم واحداً: نعيش مثل كل اللبنانيين «ألسنا بشراً؟ ألا نحتاج إلى كهرباء ودواء حتى نعيش؟ هل خصّصونا في المصارف بأموال حجبوها عن الآخَرين؟».
رغم ذلك يتفاعل المبدعون بطرق متفاوتة مع الأزمة. الرسام جميل ملاعب له وجهة نظر مختلفة ويقول: «الأزمة بالنسبة إلى البعض هي حجة لعدم القيام بعملهم». فالأزمات في رأيه «عمرها ما وقفت في وجه الإبداع. ومَن يقُل إن لا كهرباء عندي أو لا ألوان ولا يمكنني الكتابة في الظلمة، يمكنه الذهاب إلى الطبيعة ليكتب في أحضانها. فالفن والإبداع بمثابة الأكل والشرب فهل يصوم الإنسان في أوقات الأزمة؟ مَن كان فناناً حقيقياً فإن الفن عنده إدمان يساوي حياته ولأجله يتحدّى كل الصعاب».
نحاول الغوص أكثر في يوميات الرسام فيقول: «لم أعش طوال عمري متنعّماً بالكهرباء. لا شك أن الأمور التقنية تزوّدنا بالقوة لكن امرؤ القيس وعنترة بن شداد لم يحتاجوا إليها ليكتبوا قصائدهم، ومحمد الماغوط لم يمنعه الإرهاب والسجن من الكتابة ولا محمود درويش. أنا شخصياً تعوّدتُ على الحرب والأزمات والنكبات وعشت فيها مذ ولدت. يومياتي لم تتغير بل على العكس أجد أن الأزمة تزيدنا تركيزاً على العمل فلا نتلهى بأمور أخرى. عندي إيمان بأن الشمس ستشرق من جديد والربيع عائد. ومن لا يؤمن بهذا فكأنه ينتحر. أنا أنتحر بلوحاتي وأعيش يومياتي من خلال أعمالي. المبدع لا ينتظر الوحي بل يدعوه إليه».
الكاتب والروائي شكري أنيس فاخوري يرى تأثير الأزمة على المبدعين من منظار آخَر ويقول «فيما مضى قيل: اجرح القلب واسق شعرك منه... لكن اليوم هذا صار مجرد كلام. فالمعاناة كبيرة ويمكن ربما أن تولد قصائد، لكن العمل القصصي يحتاج إلى هدوء وتركيز. والإبداع الفني يتأثر سلباً بالأزمة التي نعيشها وكاذب من يقول العكس. بالنسبة إليّ ما أكتبه من قصص يحتاج إلى بناء وتركيبة متماسكة لا يمكن إنجازها إذا لم يكن الفكر مرتاحاً».
فاخوري يعيش يومياته بصعوبة ويعاني مثل الجميع بحسب قوله «لو لم أكن عميداً لكلية الفنون في جامعة الكفاءات لكانت أيامي جافة مظلمة ولكان مدخولي متواضعاً جداً. العملة اللبنانية فقدت 94 بالمئة من قيمتها ولم يعد الناس قادرين على تحصيل خبزهم اليومي. أنا لست تاجراً أو صناعياً فمن أين آتي بالدولار لأعيش؟ أحياناً أفكر لماذا أكتب؟ وأشكر ربي أن عندي بعض القصص التي يمكنني بيعها. الحالة كلها مزعجة ضاغطة صعبة ومؤلمة، السرقة والنهب الذي تَعَرَّضْنا له وغياب الدولة يُشْعِرنا كأننا في شريعة الغاب ويضعنا في حالة دون الصفر. لكن رغم ذلك أتابع حياتي في شكل من الأشكال وأواجه الظروف إذ لا يمكنني ان أتوقف عن العمل والكتابة، فإذا توقفتُ إنتهيتُ ولا يمكن أن أنهي حياتي بيدي».
الممثلة المثقفة هيام أبو شديد وجدت الحل في مكان آخَر: «أنا تاركة البلد بعد شهر. سأغادر إلى كندا عند ولديّ. العمل في لبنان لم يعد ممكناً. بعد إنفجار مرفأ بيروت تهدّم مكتبي ومحترف التمثيل الذي أديره فأصلحتُه من حسابي في البنك وقلت في نفسي الحمدالله أنني بقيت على قيد الحياة فيما عائلات خسرت أبناءها. لكنني وصلتُ اليوم إلى مرحلةٍ أودّ فيها أن أختبر المواطَنة الطبيعية. أبسط حقوقنا كالماء والخبز والكهرباء وأموالنا في المصارف بتنا نعتبرها إنجازات بدل أن نفكر بإنجازات حقيقية. نعيش إذلالاً وقهراً رغم كوننا مواطنين نؤدي كل واجباتنا لكننا لا نرى أي مقابل لها».
تعيش أبو شديد يومياتها مع ذاتها ولم يعد الإنفتاح على الخارج يعنيها: «لم أعد أخرج من بيتي إلا نادراً. تخلّيْنا عن سهرات الفرح والتسلية منذ حدوث الإنفجار، حتى إذا دعيت إلى مناسبة لا أتقبل الفرح، فالتعب النفسي ووضْع الناس من حولنا الذين يشتهون العضة بالرغيف جعل الفرح أمراً طارئاً على حياتنا لا نتقبّله. لقد صرتُ بيتوتية لا أزور سوى أمي واخواتي وقليل من الأصدقاء المقربين، إنزويتُ على نفسي وباتت أيامي مخصصة للقراءة والموسيقى. عملي في التمثيل متوقف منذ فترة، وقد خصصتُ وقتي لأعطي دورات في التمثيل في محترفي التمثيلي، وكذلك إعطاء دورات روحية تثقيفية للمُقْبِلين على الزواج. لكنني سأقفل المحترف، وسأترك كل شيء كما هو على أمل أن أعود. الآن أنا بحاجة إلى الرحيل وأن أبتعد علّني أحصل على جرعة من الأوكسجين تبقيني على قيد الحياة للعودة من جديد ربما لاحقاً».
الشاعر الدكتور جودت فخر الدين يشعر بعمق الأزمة التي تتخطى العنوان الإقتصادي لتطال وجود لبنان وكيانه، ويستشعر تأثيراتها على كل فئات المجتمع: «الأزمة التي نعيشها في لبنان بلغت بأبعادها وتأثيراتها حدوداً قصوى، بل تجاوزت كل الحدود. والعاملون في حقول الأدب والفكر يعانون من هذه الأزمة بتفاصيلها اليومية كما جميع اللبنانيين. ولكنهم ربما تأثروا أكثر من غيرهم في ما يتعلق بمواقفهم ورؤاهم وموضوعاتهم التي يعالجونها في أعمالهم الإبداعية. من جهتي كتبتُ من الشعر في السنتين الأخيرتين كما لم أكتب من قبل، وذلك من ناحيتي الكمية والنوعية. لقد جعلتْني الظروف الصعبة التي نعيشها في لبنان أنحو في موضوعاتي منحى وجودياً، يجعلني أتأمل في معنى الوجود وما يتفرّع منه من معانٍ متنوعة تتعلق بالحياة وظروف العيش وقِيَم الرفض والتغيير».
في رأيه ما عاد ممكناً الإستمرار على هذه الحال «نحن نحيا تحت وطأة صيغة لبنانية بالية، صيغة طائفية حوّلت الطوائف إلى ما يشبه العصابات. وبات على اللبنانيين العمل للتخلص من هذه الصيغة التي لا تُنْتِجُ سوى المشكلات والصراعات. لقد بات على اللبنانيين أن يتحلوا بالمزيد من الوعي حيال أزماتهم وقضيتهم الوجودية وكيانهم الوطني. ومن الطبيعي أن يتجلى هذا الوعي - أكثر ما يتجلى - في نتاجات المبدعين من أدباء ومفكرين وغيرهم».
الكاتبة كلوديا مرشليان تبدو غاضبة محبَطة ومتأثّرة جسدياً ونفسياً بما يعيشه الوطن وكل فرد من مواطنيه. وتقول«انا اليوم أكتب رغم الظروف لأن لديّ التزامات ومواعيد مع شركات إنتاج ومحطات تلفزيون يجب أن أفي بها. لكن الفترة السابقة سبّبت لي أزمة نفسية وصحية لم أكن إستطيع خلالها النوم. مرّت سنة لم أستطع فيها القيام بأي شيء. نحن نعيش في بلد لا دولة فيه، ونعيش مثلاً تحت رحمة صاحب المولد، يقرر متى ننام ومتى نستحمّ ومتى نستفيد من المكيف. كنت أعيش مأساة داخل بيتي بوجود والدي المريض الذي يحتاج إلى أوكسجين وإلى أدوية علينا تأمينها له من مصادر مختلفة. وبعد رحيل والدي كان عليّ أن أفكر بحلول لأستمر. الكتابة والفن في شكل عام يحتاجان إلى الراحة النفسية والفكرية ليكون الكاتب قادراً على الحلم، فالكتابة هي مزيج من الواقع والخيال وتحتاج إلى إتزان فكري وروحي للمزج بين الاثنين، إلى نوم وراحة وتركيز على ما نكتبه وليس التفكير بتأمين أولويات الحياة. فهذه الأولويات غريزة لا يمكن أن تولد فناً».
مرشليان سعت لمجابهة الواقع من خلال خطوة بسيطة تقوم على تركيب طاقة شمسية تؤمن لها الكهرباء لتتمكن من الإستمرار في الكتابة: «لقد فصلتُ نفسي عن المشاكل اليومية، أمّنتُ الأولويات الضرورية، أمّنتُ الكهرباء وتعاقدتُ مع موزِّع مياه لي ولأهلي الذين يعيشون بالقرب مني حتى أشعر بأنني إنسانة طبيعية. ومع ذلك لا أشعر بأنني أعيش في وضع طبيعي بل هي الكارثة أشعر بها كلما جلستُ مع أحد وإستمعت إلى معاناته. هو الجنون، الجنون المطلق والموت اليومي. كل يوم نسمع بأشخاص يتوفون فجأة. فالسترس الذي نعيشه غير طبيعي ولا علاج ولا أدوية ولا أمان. خائفون من الجوع والمرض والغد. نحن أناس بَنَيْنا أنفسنا من الصفر، حَفَرْنا بالصخر لنجمع ما يعيننا في اليوم الأسود، لكننا وجدنا أن أموالنا قد نُهبت».
«جنون» كلمةٌ تكررها مرشليان أكثر من مرة وتتساءل «كيف نُنْتِج فناً وكتابة وتمثيلاً في وضع كهذا؟»، وتضيف: «ربما العذاب هو ما يعطينا الحافز ويجعلنا نعبّر عن ألمنا ومخاوفنا. لقد جاهدتُ لأعود إلى العمل وإلا كان بالإمكان أن تكون نهايتي. لقد أبعدتُ نفسي عن الإنهيار وتركتُ ملابس النوم جانباً، لكن أشعر بأنني»غلط«كوني من الواحد في المئة من الناس الذين يعملون في البلد ولا أعرف أي نوع من الفن يجب أن نقدّم للجمهور. أحاول أن أكتب حتى لا أبدو كأنني أغرد خارج الزمن والواقع. أودّ أن أكتب عن البلد وحاله وعن حالة الجنون التي أراها من حولي».
ويبقى السؤال هل تصمد الثقافة في وجه الأزمة وهل يستطيع الإبداع أن يتعالى على الجراح ويولد من رحمها؟