ما أكثر هُموم الدنيا وما أطول أحزانها، فلا يكاد الإنسان يفيق من همّ إلّا إلى هم، ولا تجده يرتاح من فاجعة ألمّت به إلّا إلى مثلها وما زال بنو آدم يتأرجحون ما بين صحة ومرض وفقر وغنى وعز وذل وسعادة وشقاء... فإذا صح لكل مهموم يكره الحياة وكل محزون أن يقتل نفسه خلت الدنيا من أهلها واستحال المقام والعيش فيها بل استحال الوفود إليها ونقصت المواليد وتبدّلت سُنة الله في خلقه (تزوّجوا فإني مُكاثر بكم الأمم)، ولن تجد لسُنة الله تبديلاً.
ولهذا ما سُمّي القاتل مُجرماً إلّا لأنه قاسي القلب وأقسى منه قاتل نفسه... يخدع المنتحر نفسه إن اعتقد أنه مقتنع بفضل الموت على الحياة وأنه يفعل هذه الفعلة عن بصيرة فعندما يُقدم على الانتحار ويباشر مأزق الموت فإنه يشعر بغطة الموت حتى يثوب إلى رُشده ويحاول التخلص مما وقع فيه لو وجد إلى ذلك سبيلاً!
إن ألقى نفسه في الماء تخبّط ومدّ يده إلى مَن يرجو الخلاص على يده! وودّ لو يفتدي نفسه بكل ما تملك يمينه، وإن أغلق على نفسه باب الغرفة وفتح أسطوانة الغاز ودّ لو سقط عليه سقف الغرفة ليستنشق نسمات الهواء النقي ولو عاش بعد ذلك كسير اليد والرجل فاقد السمع والبصر!
إن فكرة الانتحار فكرة شيطانية والشيطان عدو الإنسان ولهذا كانت عقوبته إذا انتحر مغلّظة في حياة البرزخ... تتكرر عليه عملية الانتحار نفسها ويعاني منها مثلما عاناها في الأولى ولربما أشد...
هكذا تتكرّر عليه إلى يوم القيامة حيث ما ينتظره العذاب الأكبر؟
فمَن حدّثته نفسه بالانتحار فليتمهل ريثما يتبيّن كيف يكون صبره على احتمال سكرات الموت وآلام النزع، وكيف يكون حديث الناس عنه بعد موته، وليستحضر في مخيلته أشكال العذاب وألوان العقاب التي أعدّها الله في الدار الآخرة لأمثاله ثم لينظر بعد ذلك أيرتكب جريمة الانتحار أم لا ؟!
فلو كان ذا عقل لعَلِم أن سكرات الموت تجمع في لحظة واحدة جميع ما تفرّق من آلام النفوس وشدائدها، وان قضاء ساعة واحدة في ما أعدّ الله لقاتل نفسه من العذاب الأليم الدائم أشد ما يلاقيه من مصائب الحياة وأرزائها... لو يعمّر ألف سنة فلا عُذر لمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه من الهمّ ونفسه من الأسى ومهما ألمّت به كوارث العمر ونزلت به ضائقات العيش فإن ما أقدم عليه أشد مما فرّ منه وما خسره أضعاف ما كسبه.
إن حب النفس غريزة وصفها الله تعالى في خلقه لتكون ينبوع العمل وباعثاً للحركة والسعي في الأرض... والمنتحر يبغض نفسه بأشد ما يبغض الإنسان أعداءه، فهو شاذ في طبيعته،غريب في أخلاقه، معاند لإرادة الله تعالى في حياة الكون وعمرانه.
إن الانتحار من حيث هو مبدأ فاسد وعادة مستقبحة رمتنا بها المدنية الغربية فيما رمتنا به من مفاسدها وآفاتها التي طحنت بها البشرية.
والجزاء من جنس العمل لأن مَن يقتل نفسه بحديدة فسيعذب نفسه بحديدة يوم القيامة، ومن قتل نفسه بسم تحسّاه فسيعذب نفسه بذلك السم يوم القيامة، ومن قتل نفسه بالتردي من شاهق فكذلك سيكون عذابه، وكل من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذّب به يوم القيامة لقوله، صلى الله عليه وسلم،:(مَن قتل نفسه بشيء عُذّب به يوم القيامة).
وقتل النفس أشد جُرماً ممن قتل مؤمناً متعمداً ذلك لأن من قتل غيره متعمداً له نسمة من التوبة فلو تاب من هذه الكبيرة بعد القتل تاب الله عليه بخلاف قاتل نفسه فإنه يموت حال فعله لهذه الكبيرة بلا توبة لأن العداوة هنا بينه وبين ربه جل وعلا لأن الحامل على الانتحار الجزع وهذا اعتراض على القدر فهو إما أن يكون قاتلاً نفسه جزعاً مما أصابه من قدر الله وإما ان يكون جزعاً مما أصابه من بني آدم وكلاهما حرام بالإجماع.
قال خبّاب بن الأرت، رضي الله عنه، هاجرنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نبتغي وجه الله فوقع أجرنا على الله، فمنّا مَن مات ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مُصعب بن عمير، رضي الله عنه، قُتِل يوم «أُحد» لم يترك إلّا نمرة، فكنا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم، غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخِر... فهذا سيد من سادات الناس.