من دولةٍ تعيش قمةَ الخلافات الداخلية والتدخلات الخارجية، إلى قمةِ دولٍ تبحث ردمَ الهوة ومدَّ جسور الحوار والتعاون إقليمياً ودولياً... ذَهَبَ رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي إلى جدّة متسلّحاً بالمستحيل كي يَسْتَخْرِجَ المُمْكِن.
وربما صحّ القولُ إن الرجلَ أقام خلال تجربته الثقيلة في الحُكْم بين ضفّتيْ هذين النهريْن، المستحيل والمُمْكِن. بنى السدودَ حيث استطاع، وأمّن انسيابيةَ تَدَفُّقِ المياه في أقنيةٍ رديفة شقّها بين التراب والسياسة، وسَبَحَ عَكْسَ التيارِ مراراً قبل طوفان «الدولة العميقة» التي شعرتْ بأن تجفيفَ المَنابع أفضل من كفّ يدها عنها.
لم يَعُدْ ما يحصل في العراق سراً. عقاقيرُ محور الممانعة تُوَزَّع بلا وصْفةٍ وطنية أو إذْنٍ سيادي. خلايا نائمة ويَقِظَة في السياسة والأمن والاقتصاد ومفاجآتٌ لا حَصْر لها ولا عَدّ يمكنها تفخيخ حكومات وتحالفات وصداقات وتعطيل بلد وشلّه وتجميده وحجْز خيْراته.
وأيضاً، لم يَعُدْ سِرّاً أن الكاظمي عمل ضمن مثلّث «الأمن، التنمية، الدور» ليتمكّن من تسليم خَلَفِه أرضيةً تسمح بتدعيم ما تم بناؤه وتطويرُه. هذا المثلث كان واضحاً في كلمة الكاظمي المدروسة بعنايةٍ في قمة جدّة. قال الرجل إن القوات العسكرية والأمنية العراقية أمسكتْ بالملف الأمني العراقي بعد التخلّص من تنظيم «داعش»، وهذه القوات «تتطور بشكل مستمر لحفْظ أمن العراق ومقدرات شعبنا». إنشاءُ قواتٍ أمنية وعسكرية وفق عقيدةٍ وطنية وقتالية واضحة وأهداف «عراقية» خالصة، كانت أول أولويات الكاظمي للحدّ من تَمَدُّدِ الدولة العميقة في هذا القطاع، وكلما استطاع التقدّمَ في هدفه، كلما انفجرتْ قنابل حقيقية وصوتية ودُخانية للأذى والتعمية ومنْعِ انتصار الدولة على الدويلة. ولا بد من القول إنه بقدر ما تنشأ وتقوى في المؤسسة العسكرية والأمنية قيادات وكوادر مُؤمِنة بأن الأمن والسيادة لا يفترقان، بقدر ما تتراجع تدريجياً قدرة الميليشيات على الإمساك بالأرض.
الضلعُ الآخَر من المثلث هو ما جَهد الكاظمي على تحقيقه، أي رفْعُ أهداف التنمية إلى مَصاف الأولويات الطبيعية لكل مُواطِن. عَمِلَ على إنشاء تحالفاتٍ اقتصادية مع الأردن ومصر كانت مثالاً على عقليةٍ عربية جديدة لا تتضمّن عبارات أيديولوجية وسياسية بل تتحدّث عن مشاريع وطُرُقِ تنفيذها. وعَمِلَ على زيادة مستويات التعاون التنموي بين العراق ودول الخليج ودول أوروبية في مختلف المستويات، واقترح في قمة جدّة إنشاءَ بنك الشـرق الأوسط للتنمية والتكامل بالشـراكة مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصـر والأردن لتمويل مشاريع البنية التحتية بهدف ربْط اقتصادات المنطقة، من شبكات الكهرباء والطرق السريعة وخطوط أنابيب النفط والغاز، إلى الموانئ والمطارات والصناعات الثقيلة ذات السوق الإقليمية الواسعة، مروراً بمشاريع إدارة الموارد المائية والتصحّر.
الضلعُ الثالث من المثلث هو الدور. والمقصود هنا عمليةٌ هدفها مزدوج: تخفيفُ التوتر في المنطقة، واستكمالُ عملية الاستقرار في العراق. نَجَحَ الكاظمي حتى الآن في ما فشلتْ دولٌ كبرى بتحقيقه، وأمّن قنواتِ اتصالٍ وحوارٍ وتَفَهُّمٍ وتَفاهُمٍ بين دول عربية وإيران، وهو يدرك أن المردودَ سيكون إيجابياً أيضاً في الداخل العراقي لأن الحاجةَ إلى هذا الدور تقتضي تأمينَ مقوّماته. ولم يتمكن «الإطار» ولا الميليشيات من منْع تَكامُلِ العراق مع الدول العربية بسبب إصرار الكاظمي على استخدام الإرادة الوطنية ضدّ محاولاتهم عزْل العراق عن محيطه، وهو ركّز في قمة جدّة على ذلك بقوله إنّ العراق بادَرَ إلى تعزيز الحوار والتعاون والشراكة في المنطقة، وهو ماضٍ بهذا المنهج بما يصبّ في مصلحته الوطنية ومصلحة المنطقة بشكل عام.
ما تَحَقَّقَ في عراق مصطفى الكاظمي واعِدٌ، لكن هذا «الواعد» لا يمكن أن يُبنى عليه إلّا بوجودِ إرادةٍ داخلية ورافعةٍ عربية دولية تكون مظلةً لحماية هذا الطريق الوعر الممتلئ بالشوك. بالنسبة لهذه المظلة، فالصواريخُ التي تضرب دورياً هدفُها التذكير بأن الشرقَ ممرٌّ إلزامي. أما عن الإرادة الداخلية، فيفصح الكاظمي بكثيرٍ من الديبلوماسية عن مصاعبها بالقول في قمة جدة: «لا تزال هناك مَصاعب سياسية بعد الانتخابات، وهي تؤكد الحاجةَ للحفاظ على مبادئ الديموقراطية في الحياة العامة، وهو مسارٌ يستلزم المزيدَ من الوقت وتَراكُمَ الخبرات».
أَتْعَبَتْ الرافدين مصطفى الكاظمي. ومع ذلك يصرّ على متابعة السباحة بين ضفّتيْ المستحيلِ والمُمْكِنِ، رافضاً الاستسلامَ لرسائل النار. البلادُ صعبةٌ وإرادتُه صلبةٌ، لكن الوقتَ ليس في مصلحة العراق، والخبراتُ التي راكَمَها الطرفُ المُعَرْقِلُ لقيامِ دولةِ المؤسسات والقانون أكبر من تلك التي يراهن على تَراكُمِها.