قصص وأحداث شهدتها أجنحة العناية المركزة في مستشفى جابر، يرويها الطاقم الطبي المسؤول عنه... مراحل زمنية مختلفة، وموجات متفاوتة للفيروس... كل هذا وذاك في حكايات رويت للمرة الأولى، عن دور العاملين في الصفوق الأمامية الذين عايشوا هذه الفترة عبر تلفزيون «الراي»، الذي عمد إلى توثيق تعامل الكويت مع الجائحة، في أول سبعة أشهر، منذ فبراير وحتى أكتوبر 2020.
وفي الحلقة الثالثة من سلسلة وثائقية بعنوان «الجائحة»، سرد أطباء وطبيبات العناية المركزة في مستشفى جابر تفاصيل مهمة عن عملهم، من تجهيز قسم العناية المركزة في المستشفى، إلى استقبال المصابين من المواطنين بالفيروس، والعناية بهم، وعلاجهم، وما جرى أثناء تعاملهم مع المرضى، بين من يشفى ويخرج من المستشفى وسط فرحة الأهل الغامرة، وبين من يكتب الله له الوفاة، فيرى الأطباء حالات الانهيار والبكاء على فقد الأحبة.
وشارك في الحلقة الثالثة من السلسلة الوثائقية، كل من استشاري أمراض الجهاز الهضمي والكبد الدكتور منصور الغانم، واستشاري الأمراض الصدرية والعناية المركزة الدكتور عبدالله المطيري، وأخصائية أولى باطنية وعناية مركزة الدكتورة سارة بوعباس، ورئيس قسم التخدير والعناية المركزة وعلاج الآلام في المستشفى الأميري الدكتور عبدالرحمن الفارس، الذين سلطوا الأضواء على كواليس إدارة الأزمة كما جرت.
تشكيل الفريق في اللحظات الأولى
عبدالرحمن الفارس: تمت الاستعانة بخبرات المستشفيات الأخرى لتشكيل «عناية جابر»
كيف بدأت القصة في مستشفى جابر؟
وكيف تشكل فريق الطاقم الطبي في جناح العناية المركزة؟
يقول الدكتور منصور الغانم، «كنت من ضمن المنتدبين في مستشفى الفروانية إلى مستشفى جابر، لأنه كان هناك تشغيل جزئي للمستشفى، وبالتالي كان لابد من ملء الفراغ في القسم، وكنا كشباب نسعى لنبني شيئاً جديداً داخل المستشفى، إضافة لذلك كنت جزءاً من برنامج زراعة الكبد في الكويت، ومقره كان في مستشفى جابر، حيث كنا في بداية 2019 نعمل على تأسيس القسم، وعلى برنامج الزراعة، وكنا نسير في هذا الوضع، إلى أن جاءني اتصال من رئيس القسم نهاية شهر فبراير، بأن هناك اجتماعاً مع وزير الصحة الدكتور باسل الصباح، كان فحواه الحالات التي وصلت لنا من الخارج إلى الكويت وتبين أنها مصابة بفيروس كورونا».
وأكمل عبدالله المطيري بأن وكيل الوزارة اتصل به وطلب منه القدوم للوزارة، وذهب إليه في الساعة 12 ظهراً، وتم الاجتماع في مكتب الوزير، حيث قام بشرح الوضع، والحالات، وبداية تدفقها، وانتشارها، والتوقع والموجود، إذ قال له «من ضمن الخطة، لدينا أعداد كبيرة من الأسرة، وأجهزة التنفس الاصطناعي، ولكن سنحتاج لأشخاص يستطيعون أن يقودوا العناية المركزة».
وأوضح الدكتور عبدالرحمن الفارس، أنه تم الاستعانة بخبرات المستشفيات الأخرى كي يتم تشكيل فريق مستشفى جابر، كما أن المستشفى كان يضم أطباء وطواقم، ولكن لم تكن متعودة على نوعية المرض وكمية المرضى.
المواجهة مع فيروس مجهول
عبدالله المطيري: كان هاجسنا كيفية تجنب الإصابة بالفيروس ونقلها لأهالينا
وفيما بدأت معركة المواجهة مع فيروس كورونا للمرة الأولى، بلا سابق تجربة أو معلومات متوافرة لكيفية مجابهة مثل تلك الأوبئة، قال الدكتور عبدالله المطيري «تعاملنا مع الفيروس للمرة الأولى، وهو فيروس لم نكن قد تعاملنا معه في البلاد سابقاً، ولا حتى في غرف العناية المركزة، ولا تفاصيل معروفة عنه، فأول ما يبادر إلى الذهن هو كيفية المحاولة ألا تصاب بالفيروس، وعدم نقله إلى أهلك، وفي المقابل الحرص ألا ينتقل لك، وألا يكون عائقاً أمام تقديم الخدمة اللازمة لجميع المرضى».
وأكدت الدكتور سارة بوعباس، أنه «في العادة لا يدخل المرضى إلى العناية إلا إذا بدأت حالتهم بالتدهور، وكما نعلم أن أكثر تأثير للفيروس يكون على الرئة، وبالتالي عندما نلاحظ أن حاجة المرضى للأوكسجين بدأت بالازدياد، ومن الممكن أن نصل لمرحلة نحتاج فيها للتنفس الاصطناعي نقوم بتحويلهم إلى العناية المركزة».
ولفت الدكتور عبدالرحمن الفارس إلى أن «التعامل مع المرضى كان بشكل لم نره من قبل، ولا يعادل أي مرض آخر متعارف عليه سواء في الباطنية أو العناية، فهو مرض فيروسي غريب لا نعرف كيف يؤثر على جسم الإنسان، ولسنا على علم بكيفية معالجته بالطريقة الصحيحة».
صعوبات وتحديات... وهواجس طبية
سارة بوعباس: من كان يدخل العناية يسمع ضجيجاً من أصوات الأجهزة
وبالرغم من حداثة عمر مستشفى جابر، إلا أن فريق العمل في العناية المركزة واجه العديد الصعوبات والتحديات في ظل ظروف استثنائية على الجميع، ويشير الدكتور منصور الغانم، إلى عدم رؤية المراجعين، وكل ما يتم رؤيته هي ممرات خالية، فقد تغيرت الأشكال، وتواجد العسكر كي يحافظوا على الأمن في الداخل، هذا لم نتعود عليه في أي مستشفى من مستشفيات الكويت، إضافة لذلك كنا نرى الأطباء والممرضين في الجناح فقط، والغرف تشعر أنها فارغة وهي ليست كذلك».
وقال الدكتور عبدالله المطيري، «قد تدخل للغرفة وفيها الفيروس، وقد تلتقطه، أما خارج الغرف فهناك مساحات لفريق التمريض والأطباء».
وبينت الدكتور سارة بوعباس، أنه «من الممكن لأي شخص يدخل العناية المركزة أن يسمع أصواتاً بسبب الأجهزة الكثيرة التي توضع على المريض من تنفس اصطناعي أو أجهزة للكلى». وقال الدكتور عبدالرحمن الفارس، «هناك مرضى يحتاجون لكميات أوكسجين كبيرة، وأيضاً يمكن أن يجلسوا في الجناح، ولكن عندما يكون المريض تعبان ويتنفس بطريقة مجهدة وسريعة ويستخدم عضلات جسمه بالكامل لكي يتنفس، حينها يكون وصل لمرحلة لن يستطيع التأقلم مع نفسه ويرتاح مع الأوكسجين الذي سنعطيه إياه».
وعندما كانت في أجنحة العناية المركزة هواجس عديدة لدى الطاقم الطبي اتجاه أنفسهم من ناحية، واتجاه المرضى وحالاتهم المرضية والنفسية من ناحية أخرى، وكذلك الصورة النمطية السلبية عن العناية المركزة بشكل عام، أوضح الدكتور منصور الغانم، أنه «يومياً كان لديه في القسم مريض أو اثنان ينزفان، وبالتالي كانوا يحتاجون لأن نجري لهم منظاراً، ولم نكن نتدخل إلا في حالة كان الأمر يستدعي التدخل بسبب فيروس كورونا، وللأسف كورونا ليس هينا وكان يتلف الجهاز الهضمي».
وسرد الدكتور عبدالله المطيري قصة عن إحدى الحالات، حيث لفت إلى أناس كانت والدتهم في الجناح ووصلت لنقص شديد في الأوكسجين، وبالتالي إلى الاختناق، وكانت من الحالات التي لابد أن تعطى علاجاً يخفف من الالتهاب الرئوي، ولكن ابنتها رفضت مع أنها في وضع كانت بأشد الحاجة له. وأكد الدكتور عبدالرحمن الفارس، أنه لا يوجد شيء بالإجبار لذلك من المهم التواصل مع أهل المريض بشكل مباشر.
تدفق المرضى زاد الخوف والهلع
منصور الغانم: عشنا فترة مرهقة جداً والضغط على الكادر الطبي كان رهيباً
تعرض الطاقم الطبي في مستشفى جابر إلى حالة من الضغوطات والخوف والهلع، نظراً لتزايد أعداد المرضى وقلة الإمكانات، إلى جانب إصابة بعض الجسم الطبي بفيروس كورونا، حيث وصف الدكتور منصور الغانم، تلك الفترة بـ«المرهقة جداً»، لاسيما أنه رأى أشخاصاً يعملون في المستشفى يفكرون بتقديم استقالاتهم بسبب الضغط، وقال: «ما ألومهم، فالضغط كان جداً جداً رهيب، والأمر الوحيد الذي كان يمنعهم من الاستقالة هو أنه (في حال هدّيت المرضى منو راح يجابلهم؟)، ولكن بسبب الضغط كانوا يفكرون بترك العمل والسفر، وذلك للخروج من الضغط الذي هم فيه».
وأشارت الدكتور سارة بو عباس، إلى أنه «في فترة من الفترات بدأ الطاقم الطبي يصاب بكورونا، وكنت جالسة مع شخص يحمل الفيروس، وأثناءها كنت (حامل)، وأصبح لدي خوف كبير أن أكون قد أصبت بالفيروس، ونقلته إلى (أمي وأبوي) وأهل زوجي أو أي أحد كان».
تجربة غير قابلة للنسيان
سارة بوعباس: عشنا لحظات فرح بشفاء مرضى وعايشنا حالات انهيار بفقد أحبة
هي أيام ولحظات وساعات لا يمكن أن ينساها كل من عمل في تلك الأجنحة، إذ قال الدكتور عبدالله المطيري: «أكثر من سنة ونحن في أجنحة العناية المركزة، مع 20 سريراً، وفي الأسبوع تأتينا ما بين 5 إلى 7 حالات جديدة، وكل حالة لها وضعها، ونهاية معينة، وكل حالة ستترك لديك ذكرى، وكل حالة فريدة في نوعها».
وأكد الدكتور عبدالرحمن الفارس أن كل الناس الذين أصيبوا بكورونا وانعزلوا بالبيت أو المستشفى كانت الوحدة هي هاجسهم الكبير، وصعب جداً أن تجلس في مكان من الصعب أن يدخل عليك أي أحد أو يلمسك أو (يسولف معك)».
وأشارت الدكتورة سارة بوعباس إلى «وجود مشاهد من الفرح خصوصاً عندما يخرج المريض من العناية، ومشاهد عندما نفقد المريض، وردة فعل الأهالي والانهيارات التي تحدث خارج العناية المركزة، فهي أمر صعب أن نشاهد البكاء والانهيار».
واعتبر الدكتور منصور الغانم، أن سنة فيروس كورونا ضاعت منه، قائلاً: «ما ودّي أعيدها، سواء أكنت طبياً أو اجتماعياً أو إدارياً، فهي كانت مجهدة، واستنزفت الكثير من الطاقة».
وفاة الدكتور عواد عبدالحميد
قال الدكتور عبدالرحمن الفارس، إن«الدكتور عواد عبدالحميد عواد تطوع في مستشفى جابر بداية الجائحة، وعمل لفترة طويلة، حيث تعب واحتاج لجهاز تنفس وجهاز دعم الحياة، ولله الحمد شفي بعد ذلك، واستطعنا أن نزيل الأجهزة عنه، إلا أنه كان لديه ضيق في التنفس، وخرج إلى المنزل، وكان بيننا اتصالات، وبعد ذلك سمعت أنه توفي». وأضاف، أن «الدكتور عواد توفي لأمر له علاقة بالأمراض الجانبية من الفيروس، ولكن بعد فترة شهر من ذلك».
«ماذا سيحصل لي؟»
يستعيد المتعافي وليد المرشود، ذكرياته مع الفيروس، ويقول «أول ما وصلت إلى مستشفى جابر كانوا في المبنى الخارجي، ووضعوا (شرطة)، حينها تحدثت مع الدكتور في المستشفى، وطلب منه أن أجري مسحة»، فرد قائلاً «هل هناك أعراض؟، فنفيت، فسألني الدكتور لماذا أريد إجراء مسحة، فذكرت له أنني عدت أخيراً للكويت من لندن، وأن زوجتي لديها أعراض بسيطة».
وأضاف: «بعد ذلك ذهبنا لإجراء المسحة، وقال لي غداً سيتصلون لإعطائكم النتيجة سواء كانت إيجابية أو سلبية، وعندما كنت جالساً مع أطفالي جاءني الاتصال، وأكدوا لي أن النتجية إيجابية»، مؤكداً أنه لن ينسى هذا الاتصال بحياته حتى يموت، لاسيما أنه في البداية كانت «كورونا هي الموت».
وأكد أن «الجناح في المستشفى جداً رائع والخدمة كذلك، ولكن النفسية فيه جداً صعبة، فدخولك إلى المستشفى ورؤية من يقف ليس ممرضاً بل عسكري، يجعلك تسأل لماذا العسكري، وماذا سيحصل لي؟».
40 يوماً في السجن
أشار المتعافي عبدالهادي الصالح، إلى أنه انصدم من الاتصال الذي ورد إليه وإبلاغه بأنه مصاب بالفيروس، وأنه سيتم نقله إلى المستشفى، خصوصاً أنه سيترك زوجته لوحدها في الفندق، قائلاً «طبعاً رضخنا للقرار القاسي، وركبنا الباص، وكنا مجموعة، واتجهنا إلى المستشفى».
ولفت إلى أنه استقر في الجناح 19، «وتم المكوث في المستشفى لمدة 40 يوماً، ولكن رغم العناية المتناهية والنظافة والرعاية الصحية والغذاء الجيد، لكنه يبقى سجنا، وفي الحقيقة عندما كنا نرى من النافذة المزارع والمستخدم، والحمامة والعصفور كنا (نحسدهم)، كأنه ممنوع علينا أن نخرج من باب الغرفة، كما أن كثرة العناية الطبية والفحوصات جعلتنا نشعر بنوع من الحذر».