تحلّ الذكرى 78 لاستقلال لبنان غداً مدجَّجةً برمزياتٍ ستظلّل العرضَ العسكري الرمزي الذي يُقام في وزارة الدفاع (اليرزة) على وقع أزمةٍ وجوديةٍ تُجَرْجِرُ منذ نحو عامين وبات معها الوطن الصغير الذي كان يوماً «سويسرا الشرق» يتقلّب على سلّم أسوأ المؤشرات المالية والاقتصادية والمعيشية، فيما أداء سلطاته يصيب العالم بـ«الدهشة».
غداً يجتمع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيسا البرلمان نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي في اليرزة إحياءً لاستقلال بلدٍ، أرضُه «محروقة» بالانهيار الشامل وبالإمعان بزجّه في «فوهة» صراعات المنطقة و«سلْخه» عن حضنه العربي، وجيشُه بالكاد تساوى رواتب الغالبية الساحقة من عناصره 70 دولاراً أميركياً فيما تبدو مهماته على مشارف التمدّد في ظل الخشية من «مرحلةٍ أمنية» تقف البلاد على تخومها في سياق «تَحوُّر» الأزمة التي تعصف به ودخولها مدار «الأعاصير»السياسية، في الداخل ومع الخليج العربي، والانتخابية.
أما الشعب فمتروكٌ، تنْهشه الأزمات الأخطبوطية، بعدما استقالت السلطة من دورها في توفير «شبكة أمان» له تقيه شرّ الارتطام المميت، وحوّلت العائلات اللبنانية «جمهورياتٍ» تدير كل منها «ذاتياً» حياتَها وأبسط مقوّمات العيش، في الكهرباء والماء والطعام والطبابة والاستشفاء والتعليم و«أخواتها».
غداً، سيمرّ العيد 78 للاستقلال على القادة السياسيين «الذين يعيشون في الخيال» وفق آخِر توصيفٍ – تقريعٍ لهم من المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفيه دي شوتر، فيما الشعب الذي يواجه «باللحم الحي» ما صُنّف «إفقار وحشي» تحوّل أسيراً في ما يشبه «معتقل تعذيب جَماعياً» تُرك لـ «وجعه العاري» وربما لـ «حتفه»، بلا حتى حبة دواء أو مسكّن بعدما رُفع الدعم قبل أيام عن الأدوية المُزْمِنة (بينها الضغط والقلب والكوليسترول) بنسبٍ «حلّقت» معها أسعارها بما بين 5 و 10 أضعاف، بحيث باتت تكلفة الدواء «داءً» في ذاتها تفوق قدرة غالبية اللبنانيين على تَحَمُّلها.
... شعبٌ يتقاذف البؤسُ أطفالَه الذين يفترسهم سوء التغذية، وكان 30 في المئة منهم لا يتلقون الرعاية الصحية الأولية هذا قبْل فاجعة رفْع الدعم التي لم توفّر حليب الأطفال الرضع الذي بات سعر العبوة الواحدة منه يراوح بين 100 ألف ليرة و230 ألفاً، ما يضع المواليد الجدد أمام «خطر الموت» إما من الجوع وإما... المرض.
شعبٌ كان يفاخر بـ «صناعة الأدمغة»، فإذ بـ «صانعي نكبته» يجرّونه إلى برامج المنظّمات الدولية لإغاثة شعوبٍ ولاجئينٍ.
... شعبٌ صار إما على لوائح طالبي اللجوء الجَماعي، كما حصل مع «مجموعة الـ 39» الذين كانوا مسافرين بين مصر وأميركا اللاتينية فاستغلوا هبوط طائرتهم في برشلونة لتقديم طلبات اللجوء في إسبانيا، وإما على زوارق الهجرة غير الشرعية التي ضُبط أحدها في عرض البحر في المياه اللبنانية (بسبب عطل أصاب المركب) وكان على متنه عائلات لبنانية وسورية في عدادها أطفال أرادوا بلوغ «أرض الأحلام» في إيطاليا، وإما خلف القضبان كما حصل مع عدد من أبناء «بلاد الأرز» في تركيا بعدما كانوا غادروا لبنان بطريقة غير شرعية.
غداً تُطفأ شمعةُ الاستقلالِ الـ 78 فيما «الحريق» الأكبر في علاقات لبنان مع دول الخليج العربي مازال بعيداً عن الاحتواء، والحكومة تَمْضي معلَّقةً على «حبليْ» مقاطعة الثنائي الشيعي «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري لأي جلسات لا يسبقها إقصاء المحقق العدلي في «بيروتشيما» القاضي طارق بيطار، والقطيعة الخليجية التي لا إمكان لبدء معالجتها خارج استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي الذي اعتُبرت تصريحاته العدائية ضد السعودية والإمارات بمثابة آخر المطاف في تَساهُل دول مجلس التعاون مع وضعيّةِ «دولةِ ما بيد الحيلة» والفصل بينها وبين خيارات «حزب الله» وأدواره داخل حدودها أو في حدائقها الخلفية.
ولم يَبْدُ «إعلان النية» الذي أبداه ميقاتي حيال الاتجاه لدعوة مجلس الوزراء للانعقاد تحت ضغط الواقع المعيشي والحاجة الملحة لإعطاء دفْعٍ للمسار الرامي لإطلاق المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، أكثر من «قنبلة مضيئة» فوق الأرضية السياسيّة «المزروعة بالألغام»، وذلك لاستكشافِ إمكان كسْر تَصَلُّب الثنائي الشيعي حيال معركة الإطاحة ببيطار كما أي استقالة أو إقالة لقرداحي، وربما استدراج اتصالاتٍ لبلوغ تفاهمات لا يراها ميقاتي بأي حال حتى الساعة خارج معالجة قضية كبير المحققين بانفجار مرفأ بيروت دون جرّ الحكومة إليها لِما لذلك من ارتدادات دولية بالغة السلبية، ولا خارج استقالة وزير الإعلام لتوفير «ورقة» للوسطاء الخارجيين علّها تهدئ الغضبة الخليجية وتوقف رزمة الإجراءات الزاجرة المرشحة للتدحرج.
وإذ جاء كلام رئيس الجمهورية أمس أمام وفد من الكونغرس عن أن «التفاهم قائم مع رئيس الحكومة حول المواضيع المطروحة والإصلاحات»،مؤكداً «أن الظروف التي تمر بها الحكومة لن تستمر ومجلس الوزراء سيعود إلى الانعقاد قريباً» ليؤكد أن عون وميقاتي «على الموجة نفسها» في ما خص مخاطر استمرار تعطيل جلسات الحكومة وإن كلٌّ لاعتباراته، فإنّ مناخات بالغة الضبابية سادت حيال مدى إمكان ترتيبِ «هبوطٍ آمن» لمجلس الوزراء وغالبية مكوناته عن «الشجرة»، وسط شبه تسليم بأن أي دعوة لعقد جلسة حكومية لن تحصل قبل نهاية الأسبوع المقبل ريثما يعود ميقاتي من زيارة للفاتيكان وروما الأربعاء والخميس يلتقي خلالها البابا فرنسيس، وربما يجري انتظار انتهاء زيارة عون لقطر في 29 و30 الجاري لحضور افتتاح كأس العرب (فيفا2021) على أن يلتقي أميرها الشيخ تميم بن حمد آلثاني.
ولم يكن ممكناً تبيان إذا كان من صيغة وسط يمكن أن تسمح بالإفراج عن جلسات الحكومة على قاعدتين:
الأولى إطلاق مسارٍ لمعالجة قضية بيطار بمعزلٍ عن دور لمجلس الوزراء (وربما عبر البرلمان) وهو ما سيكون كفيلاً بحسم إذا كان «حزب الله» يقبل بتجزئة دور المحقق العدلي (كف يده عن ملاحقة الوزراء السابقين الأربعة المدعى عليهم ورئيس الحكومة السابق حسان دياب) أم يصرّ على «قبْعه» من أساس مهمته.
والثانية «نصف استقالة» لقرداحي على شاكلة أن يغيب عن الجلسة وهو ما سيضع بأي حال مجلس الوزراء أمام محكّ القدرة على اتخاذ موقفٍ واحد من الأزمة مع الخليج ومرتكزاتها ذات الصلة بـ «حزب الله»، وسط اقتناعٍ بأن أي حلول قصوى في ملف قرداحي لها تداعيات داخلية ويعرف ميقاتي «حدودها»، في حين أن اي حلول وسط سترتّب نتائج وخيمة خليجياً.
وفيما استمرّ «حزب الله» أمس بمواقف تصرّ على «تذليل أسباب التعطيل» وفق ما عبّر عضو المجلس المركزي الشيخ نبيل قاووق متحدثاً عن «أن رئيس الحكومة يبذل جهوداً متواصلة لإيجاد المخارج المناسبة للشأن الحكومي، وهناك فرصة حقيقية للمعالجة على قاعدة تذليل أسباب التعطيل وينبغي على المعنيين عدم تضييع هذه الفرصة»، لم يكن ينقص الوضع الداخلي إلا تلميح عون في حديث صحافي إلى أنه لن يسلّم بعد انتهاء ولايته الرئاسية (خريف 2022) «إلى الفراغ»، وهو ما فتح الباب أمام «رياح ساخنة» جديدة يُنتظر أن تتشابك مع «الحروب الصغيرة» الداخلية وسط خشية أوساط سياسية من أن تكون معادلة «إما النائب جبران باسيل رئيساً وإما عون باقٍ في القصر» بدأت ترتسم، من دون أن يقلّ سخونةً حسْم رئيس الجمهورية أنه لن يوقّع وفق صلاحياته أي مرسوم لدعوة الهيئات الناخبة لانتخابات نيابية في 27 مارس مصراً على إجرائها إما في 8 وإما 15 مايو خلافاً لـ «توصية» البرلمان.
وكان عون أكد في حديثه «لن يأتي بعدي رئيس كما قبلي.
لن يكون بعد الآن رئيس للجمهورية لا يمثّل أحداً.
إذا وصلنا إلى نهاية الولاية فسأترك قصر بعبدا حتماً لرئيس يخلفني.
أخشى تعذّر انتخاب خلف لي، فيكون على الحكومة القائمة تسلم صلاحيات رئيس الجمهورية، لأنها صاحبة المسؤولية المنوطة بها دستورياً. أخشى أن ثمة مَن يريد الفراغ.
أنا لن أسلّم إلى الفراغ».
وصرح خلال منتدى حوار المنامة للأمن «يمكننا تقديم الدعم ومحاولة إيجاد حلول في المستقبل، لكن ذلك بعدما يتبين أن حزب الله يمكن أن يغير سلوكه».