يعيد التاريخ نفسه بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية». منذ عام 1989 وإلى اليوم، ما زالت قصة «إبريق الزيت» نفسها بينهما. منذ ذلك الوقت وُلد جيل جديد، بل أجيالٌ من الشباب والصبايا الذين لم يعيشوا قصة (حرب الإلغاء) الحرب المدمّرة بين الطرفين. لكنهما مع ذلك، ورثوا منها كل الأحقاد والخلافات والحساسيات الشخصية.
تفصل بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع نحو 19 عاماً، وتفصل بين جعجع ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، نحو 18 عاماً، لكن الثلاثة ما زالوا يعيشون في مرحلة الحرب المستمرة منذ 32 عاماً، كأطول حرب بين فريقين.
انتهت حرب حركة «أمل» والحزب التقدمي الاشتراكي في أشهر معارك «حرب العلمين» في بيروت، وإنتهت سريعاً حرب «إقليم التفاح» بين «حزب الله» وحركة «أمل»، وإنتهت حرب الشيوعيين و«حزب الله»، وإنتهت حرب الفلسطينيين مع اللبنانيين، والسوريين مع اللبنانيين، وخرجت اسرائيل وخرجت سورية من لبنان، وما زال عون وجعجع وباسيل ثالثهما، على معركتهما المستمرة، ومعهما جمهور يتحوّل بكامله من محازبين سياسيين وإعلاميين وأكاديميين فجأة من مواطنين إلى محاربين، حين ينقضّ زعيم «التيار الوطني» على خصمه، أو زعيم القوات على مُنافِسه. وحدها الأشهر القليلة التي طبع فيها»تفاهم معراب«، جعلت الهدوء يعمّ جبهتيْ القوات والتيار، فسُحبت الدعاوى، أنشدا أغنية «أوعى خيك» وإنتُخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية (اكتوبر 2016). إنتهت الصلحة وفرغت الكؤوس التي رُفعت في معراب يوم زارها عون لإنهاء صراع مدمّر، وعادت الحرب السياسية مجدداً.
لم تكن الصلحةُ التي طوتْ صفحةَ الحرب الدموية بين الفريقيْن، تبدو هشةً إلى الحد الذي أظهرتْه مرحلة ما بعد الإنتخابات الرئاسية، وصولاً إلى الأشهر الأخيرة التي تكَرَّسَ فيها الخلاف العميق مجدداً، وعادت لغة التخوين بينهما.
مشكلة عون وجعجع التي تعود إلى الثمانينات، بدأت منذ لحظة دخول عون إلى القصر الجمهوري رئيساً للحكومة الإنتقالية خلفاً للرئيس أمين الجميل (1988)، وتشعّبت مع إصرار عون على حل الميليشيات بدءاً من «القوات» فخاض معها حرباً طويلة، دمّرت «بيروت الشرقية» وأقيمت حواجز بين المناطق والعائلات.
«حرب الأخوة» بينهما قتلت وأصابت المئات، ودفعت مئات المسيحيين إلى الهجرة. وتدرجت مع موافقة القوات على إتفاق الطائف الذي رفضه عون وشنّ حرباً على سورية فأخرجتْه من قصر بعبدا على وقع قصف جوي مدمر (13 أكتوبر 1990). نفي عون إلى باريس وما هي إلا سنوات قليلة حتى سُجن جعجع (1994).
وحين عاد عون إلى بيروت في مايو عام 2005، زار جعجع في سجن وزارة الدفاع، وقال إن جعجع حُكم بجريمة هو بريء منها ودعا إلى إطلاقه، وإعتبر ان المحكمة التي أدانتْه كانت خاضعة للنفوذ السوري. أُطلق رئيس «القوات» في يوليو من العام نفسه بعد إقرار مجلس النواب العفو عنه مع مجموعة من الإسلاميين، وغادر لبنان.
بعد عودته، التقى عون وجعجع أكثر من مرة. حاولا دفْن الماضي بينهما، لكنه كان أقوى، كما كانت أقوى رغبتهما في إستعادة النفوذ لدى المسيحيين. حاولا تثبيت هدنة سياسية في الشارع المسيحي، لكن الإنتخابات النيابية فرّقت بينهما مجدداً. البعض إعتبر آنذاك ان عون وجعجع يتقاسمان التحالفات، واحد مع فريق سني وآخر مع فريق شيعي. كان عون وقع ورقة التفاهم مع «حزب الله»، والقوات ترسم علاقة جديدة مع «المستقبل» على وقع إنتخابات عام 2005، التي خاضتْها القوات مع حلفائها في ثورة الأرز.
عام 2009، خاض جعجع متزعّماً حزب القوات معركة الإنتخابات بنفسه للمرة الأولى، إلى جانب حلفاء عام 2005، وخاضها عون متحالفاً مع «حزب الله»، وتَكَرَّسَ الإفتراق مجدداً، وهذه المرة ظل سلمياً، وإن تحولت المنصات الإعلامية ولاحقاً مواقع التواصل الإجتماعي مع مرور السنوات ساحة حرب حقيقية بينهما.
بعد 7 مايو عام 2008، وإنتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، إثر إتفاق الدوحة، سعت القوات والتيار إلى تنظيم خلافاتهما إستناداً إلى شعار حماية حقوق المسيحيين وإستعادتها في السلطة والإدارة، فاتفقا على إستعادة قانون 1960 الإنتخابي، وخاضا إنتخابات 2009 على أساسه، وعملا على تَقاسُم الحصص المسيحية (مع «تيار المردة» بعدد أقل) في الحكومة، رغم أن التيار كان يتمتّع بحصة أكبر، نتيجة كتلته النيابية الأكثر عدداً في المجلس النيابي. لكن الخلاف ظل قائماً إلى حين الإنتخابات الرئاسية وإنتهاء عهد سليمان.
وبين ترشيح عون وجعجع البديهي إلى الرئاسة تَعَطَّلَ لبنان مدة عامين ونصف عام. وبدعْمِ «حزب الله» لم يتراجع عون، لا بل ان التعطيل أصاب المجلس النيابي. ولم يتراجع جعجع عن موقفه، الذي كان يدعمه فيه بداية «تيار المستقبل».
مرحلةُ الفراع الرئاسي أشعلتْ مجدداً قاعدة القوات والتيار، فتبادلا الإتهامات، ولا سيما ان عناصر إقليمية دخلت على الخط، فشكلت مادة خلاف جديدة: الحرب السورية، الافتراق السعودي عن سورية، النازحون السوريون، تَصاعُد حركات الإرهاب التي ضربت لبنان، الموقف من معارضي النظام السوري.
حين قرر زعيم «المستقبل» الرئيس سعد الحريري السير بترشيح رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، إستفزّ جعجع الذي اعتبر ان السير بفرنجية، الذي يضربه شخصياً في عقر داره الشمالي، يتخطاه. فقرر السير بمصالحة مع عون لترشيحه للرئاسة.
ورقة تفاهم معراب أظهرت لاحقاً ان الطرفين سعيا إلى تقاسم الحصص مسبقاً، كمشروعِ صلحٍ قائم على توزيع المغانم. إلا ان إنتخاب عون لم يحمل المنّ والسلوى لمعراب، بل العكس، فإن دخول باسيل القصر الجمهوري كـ «رئيس ظل» وسيطرته تدريجاً عليه بعد إخراج «عائلة عون السياسية» منه، أي مستشارته وابنته ميراي وإبعاد صهره شامل روكز، وتعيين حلقة باسيل الأقرب إليه في بعبدا، جعلا من الصعب عليهما متابعة تنفيذ بنود الإتفاق، بعدما إتهمت القوات باسيل بانه أطاح به لمصلحة تعيينات تتيح له إحكام القبضة على مَفاصل الحكم والإدارة.
تحوّل الخلاف بين عون وجعجع، خلافاً بين باسيل وجعجع، والإثنان يُعدان العدة للإنتخابات الرئاسية. يوم 17 أكتوبر 2019 كان الإفتراق السياسي قد أصبح واقعاً ميدانياً، فقطع الطرق والتظاهرات التي شاركت بها القوات، إعتبرها عون موجهة اليه شخصياً.
تفاقَمَ الخلافُ السياسي، ولم تعد طريقة العودة صالحة لحلّ الخلاف بينهما. ومنذ عامين، والجو العوني - القواتي يزداد سواداً. وبين يوم الإحتفال بقداس شهداء «القوات اللبنانية»، ويوم الإحتفال بذكرى 13 أكتوبر (إخراج عون من القصر)، نحو شهر ونيف، أطلق جعجع وباسيل فيهما شرارة معركة رئاسة الجمهورية والإنتخابات النيابية سوياً. رغم انهما إنطلقا فعلياً فيها منذ 17 أكتوبر 2019، الأول حين قرر الإنسحاب من الحكومة ومن السلطة لاحقاً والإنضمام الى المتظاهرين، والثاني حين قرر انه سيقلب الطاولة وينسحب من الحكومة فسبقتْه التظاهرات.
في سبتمبر الماضي دعا جعجع إلى إنتخابات رئاسية مبكرة، رافضاً «الرئيس الخانع والخاضع والمساوم على الأساسيات والثوابت»، وقال «نرفض الرئيس الضعيف. كما نرفض الرئيس القوي بتغليب مصالحه ومصالح أتباعه وأزلامه في الدولة، على حساب الدولة وكل اللبنانيين». ووصف نتائج رئاسة ميشال عون بالـ «كارثية، وكارثية جداً علينا جميعاً كلبنانيين، وبالأخص كمسيحيين». وأعرب عن أسفه ان «تنقلب خطوة كانت مشبعة بكل نياتنا الحسنة مأساة لم يعرف لبنان لها مثيلاً».
أسف جعجع لإنتخاب عون، للمرة الأولى بعد خمس أعوام على التفاهم الذي أدى إلى تربعه على كرسي الرئاسة، وبعدما أفضى هذا التفاهم الى ردود فعل متناقضة، حين رفضه حلفاء جعجع المسيحيون، ولم يحافظ عليه الذين عقدوه.
في المقابل وفي استعادته لذكرى 13 أكتوبر 1990، لم يقارب رئيس «التيار الوطني» الذكرى التي أطاحت بعون على يد النظام السوري والسلطة التي أنتجها، إلا من زاوية الخلاف مع جعجع. وجاءت أحداث الطيونة الدامية أخيراً، لتضع أمامه إستهداف القوات بنداً أولياً يتعدى كل الملفات العالقة وتدهوُر الأوضاع في لبنان وجريمة تفجير مرفأ بيروت. فتحولت الذكرى مناسبة لإستنهاض المناصرين ضد القوات، والتذكير مجدداً بما إرتكبتْه أو إتُهمت به خلال الحرب وبعدها.
رَفَعَ باسيل سقف مواجهته لجعجع، ومناصرو الطرفين لم يوفروا جهداً في شن حروب كلامية وحملات تخوين وإتهامات متبادلة على خلفية أحداث الطيونة. لكن المحصلة ان عين جعجع وباسيل على الإنتخابات النيابية التي تعرّض فيها باسيل لنكسة بعدما لم يؤخذ بالتعديلات التي طرحها في المجلس النيابي على قانون الإنتخاب وأقرت تعديلات أخرى لم يكن يريدها، في حين إعتبرت القوات إنها حققت نصراً فيها. وعيْن الطرفين على الإنتخابات الرئاسية لأن نتائج «النيابية» ستكون المعبر نحو قصر بعبدا. على الأقل هذا ما يفترض أن تكون عليه الحال برلمانياً وسياسياً. إلا ان كلا الإستحقاقين يمكن أن يكونا في مهب الريح، كما جرت العادة في لبنان. والعادة ان «صراع الأخوة» منذ التسعينات، ما زال مستمراً وبحدة، وما مراحل الهدنة سوى الإستثناء وليس القاعدة.