إنه «4 أغسطس» مصغّر في بيروت... انفجار دموي للعنف أخذ الناس الآمنين على حين غفلة وفَتَحَ عليهم أبوابَ الجحيم فيما هم قابعون في بيوتهم ومدارسهم وأشغالهم.
مواطنون مسالمون، نساء وأطفال أبرياء، ورجال محايدون وجدوا أنفسهم فجأة عالقين «بين ناريْن» وسط زخات الرصاص والانفجارات تحاصرهم وتغرقهم في بحر من الذعر والقلق وتمنع انتقالهم الى أماكن أخرى للاحتماء.
مشاهد صادمة آلمت مَن عاشها ومن تابعها عبر الشاشات وأعادت فتح كل الجروح القديمة وصفحات من «دفاتر الحرب الأهلية»، ليستفيق لبنان اليوم على حالة من الذهول في يوم حداد طني بات قدَرَ هذا الشعب الذي ينتقل من بؤس الى بؤس.
منذ ليل 13 أكتوبر سرت إشاعات بأن نهار الخميس في الرابع عشر من الشهر لن يكون يوماً عادياً ولن يمرّ بهدوء. ساد جو من الحذر والترقب أوساط الناس العاديين، لكن لم يشأ أحد أن يصدّق أن الأمور يمكن بلحظات أن تخرج عن السيطرة.
أصحاب القرار ربما يكونون قد خططوا لكل الأحداث ورسموا سيناريواتها بدقة، لكن المواطنين كانوا غافلين عما يجري ويُخطط له وإن كانت القلوب غير مُطْمَئنة، وعاشوا على أمل أن تمر الأمور على خير و«يتجاهلهم» الخطر ولو لمَرة، هم الذين يقاومون بشكل يومي على «جبهات عدة» ليحافظوا على «ما يشبه» الحياة العادية وسط كل ما يواجهونه من أزمات. لكن الآمال خذلتهم، ومرة جديدة وجد اللبناني نفسه يدفع من روحه ولحمه ودمه وأعصابه ثمن «معارك» لم يُسأل عنها ويُقتاد إليها في كل مرة.
عالقون في جحيم المعارك
صباح الخميس، ما كان يفترض أن يكون مسيرة احتجاج سلمية نحو قصر العدل في منطقة بدارو للضغط لإقصاء المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، سرعان ما تحول بسحر ساحر أو «مدبِّر» اشتباكات بالرصاص الحي والقذائف الصاروخية، وتحوّلت منطقة الطيونة القريبة من قصر العدل وخط تماس الشياح – عين الرمانة ساحة لمعركة شعواء وتَبادُلٍ لإطلاق النار وقنْص وتصويب مباشر على الأحياء والمباني السكنية وكأنها «معاقل للعدو». مسلّحون في الشوارع مدجَّجون بالأسلحة، وآخَرون على السطوح يقتنصون الموجودين في الشارع، والناس عالقون وسط كل ذلك وغارقون في موجة جارفة من الرعب، لا يفهمون ما يجري من حولهم، يتلقون الرصاص الطائش أو الموجَّه داخل منازلهم وعلى شرفاتهم وجدران مبانيهم ويستذكرون مع كل طلق رصاص ودوي «أربي جي» وتَساقُط للزجاج ذكرى الحرب الأهلية التي مرّت بكل قبحها وقسوتها على هذه المنطقة ودمّرتها، ويستعيدون في أذهانهم ذعر انفجار المرفاً الذي ما زالت آثاره عالقة في كل ذرة من أعصابهم.
بسرعةٍ تَراكضوا نحو أدراج البنايات ونزلوا الى الطوابق السفلى في محاولة للاحتماء من الرصاص. «لينا» لم تستطع الوصول إلى سيارتها للهروب، خافت من المسلحين المنتشرين بكثافة في الشارع. ومن بعيد راقبتْ سيارتها في انتظار اللحظة المؤاتية، لكن الرصاصَ كان أسرع منها إليها فتهاوى زجاجُها الأمامي وتَناثَرَ على المقاعد، فتراجعت «لينا» مذعورة الى مدخل المبنى تفتش عن زاوية آمنة في انتظار عودة الهدوء.
إحدى الحاجات المتقدمات في السن، علقت في الطابق التاسع لإحدى البنايات المطلة على موقع الاشتباكات. في الخامسة والتسعين من عمرها لم تستطع الحراك عجزاً وخوفاً، ناشدتْ حفيدتُها القوى الأمنية مساعدتها والعمل على إخلائها من البيت. وكم كان المَشهد مؤلماً وهي تُنقل على كرسيها المحمول على أيدي عناصر من الدفاع اللبناني. وكان هؤلاء مع عناصر الجيش اللبناني عملوا على إجلاء المواطنين العالقين في بيوتهم من منطقة الطيونة ونقلهم الى جهة آمنة، وكان الخوف جلياً على وجوههم وهم يعبرون ركضاً للاحتماء في أماكن آمنة، وبعضهم حمل ما تيسر من أغراض شخصية خشية عدم العودة الى بيوتهم في وقت قريب.
صور هؤلاء الأشخاص تطابقت بشكل مذهل كما لو أنها نسخة مكررة عن مشاهد تعود لأكثر من 45 عاماً حين كان آباؤهم ربما وأمهاتهم وجيرانهم يهربون بالطريقة ذاتها من القصف والرصاص إبان الحرب اللبنانية.
«مصائب الله نزلت على راسنا» يقول الحاج ابو فادي، من دون أن يكون قادراً على المزيد من الكلام. نزل من شقته باحثاً عن ابنه فادي الذي كان لا يزال عالقاً في أحد المباني. فاجأتْه المعارك وهو في بيته، أما زوجته المنهارة على كرسي جنبه فقالت: «اينما ذهبنا نعلق في مآس ومعارك، خلص تعبنا نود ان نعيش مثل بقية الناس.»
المتاجر في المنطقة التي كانت استعادت ألقها بعد عودة السلم الأهلي والحياة الى منطقة الطيونة المدمرة، والمحال التي تكافح اليوم لتصمد في وجه الأزمة المالية العاتية، خسرت في ساعات معركتها للصمود الاقتصادي. تناثرتْ واجهاتُها الزجاجية وأصاب الرصاص محتوياتها ودمّر أجزاء منها، تاركاً أصحابها يبكون على شقا عمرٍ وعلى خسارتهم في ساعاتٍ ما حاولوا بناؤه على مر سنوات.
صاحبة أحد المحلات صرخت بألمٍ كبير أمام إحدى الشاشات «دمرتونا، شعب لبنان انتهى لم يتبق لنا شيء؟ حرمتونا من أولادنا هجّرتوهم، أبعدتم عنا فلذات أكبادنا. كيف نعيش والناس تُقتل في الشوارع، قوموا عن كراسيكم. دمرتونا ايّ ذل ستذلوننا به أيضاً».
معمودية النار لأطفال أبرياء
حين سرت إشاعات في الليلة السابقة للمسيرة عن إقفال المدارس في اليوم التالي، سارَعَ وزير التربية الى إصدار بيان يعلن فيه أن الخميس هو يوم تدريس عادي ولا إغلاق للمدارس، فما كان من الأهل إلا أن أعدّوا صغارهم ليوم مدرسي عادي واصطحبوهم الى تلك المدارس العديدة الواقعة في محيط منطقة الطيونة.
صغارٌ يلاقون مدرستهم بحبٍّ منذ ما يقارب الأسبوعين أو أقلّ بعد انقطاع عن التعليم الحضوري دام لنحو سنتين. لم يفهموا ما يجري ولمَ طُلب منهم الاحتماء في الممرات والطوابق السفلى من مدارسهم. سمعوا زخات الرصاص وتَطايُر الزجاج من نوافذ صفوفهم، وسمعوا البكاء وصراخ الخوف من كبارهم ومعلّميهم، فـ تراصّوا قرب بعضهم البعض يبْكون مذعورين. قسم منهم احتموا تحت طاولاتهم المدرسية الصغيرة ظناً منهم أنها تقيهم خطر الجنون الذي يحدث حولهم، وغالبيتهم تكدسوا في الأروقة والزوايا البعيدة أجساداً مرتجفة وعيوناً تائهة تبحث عن معنى لِما يحدث ولا تجده.
بلحظةٍ اكتسبتْ طفولتُهم «معموديةَ النار» وباتوا مشاريع ضحايا جدد في لبنان، وانحفرت في ذاكرتهم الطرية صورٌ تداخلت مع ذاكرة الوطن الجماعية الملأى بالذكريات المؤلمة والمخيفة. منظر هؤلاء الأطفال على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وخلفيات عائلاتهم السياسية والحزبية كان الأشدّ إيلاماً وسط مشاهد الجنون والقتل والعنف والحقد. طفولتهم المسلوبة وأمانهم الضائع جرح قلوب اللبنانيين والعالم.
الأهل المذعورون الذين استعادوا لحظات طفولتهم في الحرب الأهلية هرعوا الى المدارس تحت زخات الرصاص، وبعضهم لم يستطع الوصول إليها كبعض أهالي مدرسة الفرير الواقعة تماماً وسط المعركة او مدرسة لويز فاغمان في الطرف الآخر. باكين منهارين وصلوا الى حرم المدارس ليخلّصوا صغارهم من الجحيم العالقين وسطه وينقلوهم الى أمان بيوتهم.
«مازن»، أحد الآباء الذي صادف غياب زوجته عن البيت لزيارة عائلية سارع كالمجنون على دراجته النارية الى مدرسة الليسيه لينقل طفلتيه. لم يعرف إلى أين يتوجه وفق ما روى لـ «الراي» فيما بعد، فهو لا يعرف المدرسة جيداً، فراح يركض وسط الممرات، وصوتُ الرصاص يتصاعد من حوله حتى وصل الى قاعة سفلية اجتمع فيها مئات التلامذة، ولم يتعرف على طفلتيه على الفور وسط رفاقهنّ الباكين المذعورين. إدارة المدرسة منعتْه من الخروج، وطلبتْ منه ومن كل الأهل الانتظار في هذا المكان الآمن حتى لا يعرّضوا حياة أبنائهم وحياتهم للخطر.
إحدى الأمهات ظهرت وهي تُمْسك بيديْ طفلتيْها وإحداهن باكية وهي تخرجهنّ من المدرسة، قبل أن تحتمي بسيارة معهما من الرصاص المُنْهَمْر وهي تحاول «الاستنجاد» باتصالٍ هاتفي، قبل أن تلتقطها عدسة كاميرا وهي تعبر الى «منطقة الأمان» بحماية عنصر من الجيش اللبناني حمل إحدى الطفلتين على ذراعه.
ولم تقلّ صورة أخرى دلالةً، وفيها طفلة تحتمي بعنصر من الجيش وفّر لها «غطاء» وعبر بها الشارع. وقد انتشرت صور العسكريين على مواقع التواصل الاجتماعي مع تعليقاتٍ أكدت أن الجيش وحده خلاص الوطن والمواطنين.
خلف الجدران والحفافي والسيارات احتمى الأهل وأبناؤهم، وعلى أكتاف الآباء ارتمى الصغار وحقائبهم في مشاهد أشعلت في الذاكرة صور الحرب الأهلية وحروب سورية والعراق واليمن وأخواتها.
وحش العنف الرابض
ضحايا أبرياء التهمهم وحش العنف الرابض المتربّص دائماً للانقضاض على الناس الأبرياء في بلد مفكك الأوصال. مريم فرحات أمّ لخمسة أولاد اصطادها الرصاص وهي في بيتها تطهو ربما لأولادها وتنتظر عودتهم من المدرسة. أصيبت برأسها وسقطت ميتة على الفور لا لذنب إلا لتواجدها في منطقة تختصر كل النزاعات اللبنانية وتذكي حالة التوتر التي يعيشها الوطن الصغير.
سقطت مريم ضحية العنف فيما ابنتها الطفلة عائدة من مدرستها في الباص. وحين انتشر خبر وفاة الوالدة سارع مقربون لإبعاد الطفلة عن بيتها حتى لا تصدم بخبر وفاة أمها وفق ما تناقلته وسائل الإعلام. طفلة كان من المبكر جداً عليها أن تعيش اليتم والصدمة والذعر في يوم واحد ويمتلئ قلبها البريء كما كل قلوب الأطفال الذين عاشوا هذا اليوم بحزن ما كان يجب ان يجد له مكاناً في قلوب بيضاء.
... عيون أطفال لبنان ارتسم فيها من جديد ذعر يصعب للآتي من أيام أن يمحوه.