بلغ الانقسام السياسي الأميركي، أو «حرب الثقافات»، كما يحلو للأميركيين تسميتها، ذروته، مع الضجة التي أثارها النقاش حول تأثير تربية الماشية على ارتفاع معدلات انبعاث ثاني أوكسيد الكربون، وتالياً المساهمة الكبيرة للماشية في الاحتباس الحراري والتغير المناخي الناجم عنه.
في أوساط الحزب الديموقراطي انتشرت دراسات من أبرز الجامعات، مثل جامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك، ورد فيها أن الماشية المخصصة للاستهلاك البشري تساهم في ثلث اجمالي الغازات المنبعثة في العالم.
وجاء في الدراسة أنه «حتى لو انخفضت إلى الصفر انبعاثات النظام غير الغذائي»، أي الناجمة عن قطاعي الصناعة والنقل، «سيكون من المستحيل» الوصول للمعدلات المنخفضة التي أقرّتها اتفاقية باريس للمناخ، وذلك بسبب انبعاثات النظام الغذائي.
وأضافت أن «الغذاء والمناخ مترابطان، اذ يشكل تغير المناخ مخاطر كبيرة على النظام الغذائي، ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط الطقس الى أضرار جسيمة للمحاصيل، ولشبكات التجارة المرتبطة بها، ولسبل العيش في العقود المقبلة».
ولفتت الدراسة الى أن «مئات الملايين من الناس يعملون في الزراعة وغيرها من جوانب إنتاج الغذاء»، وأن «أعلى النسب المئوية هي في البلدان النامية، حيث يعيش أكثر من أربعة مليارات شخص، معظمهم من النساء»، وهو ما يعني أن تعطيل هذا القطاع يؤثر سلبيا بالدول الزراعية أكثر منه في الصناعية.
ولأن مواضيع المناخ تتصدر النقاش الأميركي، أعلن أبرز المواقع الأميركية المتخصصة بتقديم وصفات لتحضير وجبات الطعام، المعروف بـ «ايبيكيوريوس»، أن الموقع لن يضيف أي وصفات جديدة تتضمن تحضير أطباق فيها لحم، وأنه سيستعيض عن ذلك بالأطباق المعدة من الخضراوات، ومن بدائل اللحم، مثل فول الصويا، الذي يتم استخدامه لاعداد «لحم كذّاب» أو لصناعة بديل اللحم المعروف بـ «توفو».
وحذت أكثر المطاعم الفاخرة في عدد من المدن الأميركية حذو «ايبيكيوريوس»، وامتنعت عن تقديم أي أطباق فيها لحوم، وحذفتها عن لوائح الطعام التي تقدمها للزبائن.
هذه الحركة بين الديموقراطيين ضد استهلاك اللحم أثارت حفيظة الجمهوريين، الذين يصنفون وجبة الهامبرغر كطبق تراثي وطني، فراح الاعلام اليميني يكيل الاتهامات للديموقراطيين، ويتهمهم بأنهم أصحاب مزارع فول صويا، وأن هذا يدفعهم لاستصدار تشريعات ضد استهلاك اللحم حتى يتفوق الفول الديموقراطي على اللحم الجمهوري.
وتصدرت شبكة «فوكس نيوز» اليمينية حملة التحريض ضد الديموقراطيين، ووصلت الى حد اتهام ادارة الرئيس جو بايدن بأنها تنوي حرمان الأميركيين من اللحم ومن الهامبرغر، أو في أضعف الايمان، حسب الاعلام الجمهوري، سيعمد بايدن الى فرض تقنين على كمية اللحم التي يستهلكها الأميركيون أسبوعيا.
وفي وقت لاحق، اعترف مذيع في «فوكس نيوز» بأن ما سبق أن أذاعه، وقال فيه إن بايدن يحاول مطالبة الأميركيين بتقليل استهلاكهم للحوم الحمراء بشكل حاد، «كان معلومات خاطئة».
وقال جون روبرتس إن «الرسم والسيناريو» الذي عرضه على برنامجه«أشار بشكل غير صحيح» إلى أن دراسة أكاديمية صادرة في العام 2020، حول أكل اللحوم وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، هي «جزء من خطة بايدن للتعامل مع تغير المناخ».
الجمهوريون، بصورة عامة، يرفضون الدراسات القائلة إن المناخ يتغير، ويعتبرون أن ما يتغير هو طريق قياس المناخ، وأن هناك مؤامرة ديموقراطية للتلاعب بطريقة القياس هذه.
كما تصر غالبية الجمهوريين، على أنه حتى لو كان المناخ يتغير، فإنه لا علاقة بين التغيير وبين انبعاث الغازات الناجمة عن الاستهلاك البشري.
وبلغت «حرب الثقافات» الأميركية ذروتها في وقت صار واضحاً أن الحزب الجمهوري لن يبتعد عن دونالد ترامب، بل سيلتصق به أكثر، بسبب الشعبية التي ما زال الرئيس السابق يتمتع بها داخل الحزب، والتي تجلت أخيرا بقيام قيادة الأقلية الجمهورية في الكونغرس بطرد عضو القيادة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق الزعيم داخل الحزب ديك تشيني، من صفوف القيادة، واستبدالها بعضوة موالية لترامب، على خلفيه تصريحات لتشيني خالفت فيها الرئيس السابق، الذي يعدّ حملة سياسية شعبية مبنية على اطلاق تسمية «الكذبة الكبرى» على انتخابات العام الماضي، والتي أطاحت برئاسة ترامب، الذي لا يعترف بنتائج الانتخابات الأخيرة حتى اليوم.
وردّت تشيني على ترامب ومؤيديه بالقول إنه لا يجوز أن يتحول الحزب الجمهوري الى «حزب أكاذيب»، وأن يشن هجمات ضد الجمهورية وأنظمتها وانتخاباتها.
على أن تشيني قد تكون واعية لما هو أبعد من الاخلاقيات المطلوبة بين الجمهوريين، اذ إن استطلاعات الرأي أظهرت أن تسخيف ترامب للانتخابات، ووصفها بـ«المزورة»، أفقد ثقة الناخبين الجمهوريين بالنظام، ودفعهم للقول إنهم سيمتنعون عن الاقتراع في الانتخابات العامة المقبلة.
وهذا النوع من المقاطعة الجمهورية للانتخابات من شأنه أن يضعف الجمهوريين أمام منافسيهم الديموقراطيين، وهو الأمر الذي يبدو أنه أقلق تشيني، التي كانت مسؤولة داخل حزبها عن إدارة المعركة الانتخابية المقبلة، قبل أن تقوم القيادة في الكونغرس باخراجها من منصبها.
ويبدو أن تشيني تعتقد أن لدى ترامب قدرة على تجييش قاعدة الحزب، لكن لا قدرة لديه على توسيع هذه القاعدة خارج نطاق مؤيديه.
كذلك، لا يبدو أن ترامب يدرك عواقب تصرفاته إذ هو يمعن في اتخاذ خطوات تساهم في المزيد من اضعاف الحزب الذي خسر واشنطن بفروعها الثلاثة - البيت الأبيض والكونغرس بغرفتيه - بعد أربع سنوات فقط على فوز ترامب بالرئاسة.
لكن قوة ترامب داخل الحزب تحرّم على من هم أذكى منه سياسياً مواجهته أو تصحيح مساره بما فيه المصلحة الحزبية الأوسع، وهو ما يعني أن الرئيس السابق من أقوى قادة الحزب الجمهوري في تاريخه، وما يعني أيضاً أن الحزب الجمهوري في أضعف حالاته على المستوى العام تاريخياً، وهي معضلة تبقي الجمهوريين في مأزق غير قادرين على الخروج منه، اذ حتى ابنة تشيني لم تصمد في وجه موجة ترامب العاتية داخل حزبه.