أظهرت إيران أنها تستطيع ارتداء ثياب «القرش ذي الأسنان الحادة» بمفاوضتها نداً لند مع الولايات المتحدة، الدولة العظمى التي رفضت طهران جلوسها إلى طاولة مفاوضات فيينا، وبقيت تنتظر في الغرفة الملاصقة من ينقل لها ما يجري من مباحثات مع الدول الخمس، التي لم تنسحب من الاتفاق النووي (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، روسيا والصين).
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، إذ تصرفت إيران بقسوة في ردها على العملية التخريبية التي نفذتها إسرائيل عبر ضرب مركز ناتانز النووي في إيران. فرفعت مستوى التخصيب إلى 60 في المئة وبدأت بإنتاج اليورانيوم بمعدل 9 غرامات في الساعة.
وهذا ما أحرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي انتقل من كونه صاحب اللعبة والمسيطر عليها، إلى الملام على أفعاله المتهورة التي حشرت الغرب في الزاوية.
وخرجت إيران «رابحة» مقابل «خسارة فادحة» لنتنياهو الذي تباهى بأن عمليته التخريبية ستعوق العمل في مفاعل ناتانز لمدة أشهر طويلة، ليتبين أن طهران، التي بدأت برفع الإنتاج والتخصيب وأجهزة الطرد، أصبحت أكثر تقدماً في المسار النووي أمام أعين العالم الموثوق اليدين.
وثمة من يعتقد أن فاتورة إسرائيل امتلأت عند إيران بعد عمليات تخريبية عدة، أخطأ نتنياهو بتوجيهها إلى طهران، معتقداً أن عدم الرد على الضربات في سورية سيسمح له بالفعل نفسه مع إيران وفي ملعبها في مضيق هرمز والبحر الأحمر.
ووقع نتنياهو في فخ «ثرثرته» الأمنية بتباهيه بضرب إيران ليأتي الرد مباشرة ومن دون تأخير عبر استهداف سفن إسرائيلية في مياه بعيدة عن منطقة النفوذ الإسرائيلية، أو على الأقل ما تعتبره طهران، داخل نفوذ سيطرتها.
وأظهرت القدرات الاستخباراتية الإيرانية فعاليتها في رصد السفن الإسرائيلية. وكذلك أثبتت طهران أن مرمى نيرانها يصل إلى ضرب أي هدف يتحرك في منطقة عملياتها خصوصاً أنها قد أجادت «حرب السفن».
ولم يخطئ رئيس الوزراء الإسرائيلي في حساباته في الأعوام العشرة الأخيرة من الحرب السورية.
إذ قدر خبراؤه ومحللوه، أن القيادة السورية تمتلك سلم أولويات ووضعاً اقتصادياً حرجاً ووجوداً أميركياً محتلاً في الشمال الشرقي السوري، وتالياً فإن الرئيس بشار الأسد لن يفتح جبهة مع إسرائيل هو بغنى عنها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن روسيا لا تريد الفشل في تدخلها الشرق أوسطي الأول، وتالياً فهي فضلت إعطاء سورية كل ما تحتاجه من صواريخ اعتراضية بدل الوجود في وسط حرب سورية - إسرائيلية مدعومة من إيران.
وهذا يفسر سبب عدم رد الأسد على استفزازات إسرائيل (التي تدعي تنفيذ أكثر من ألف غارة) في الوقت الراهن وأن الحساب مؤجل لظروف أفضل.
وقد أخطأ نتنياهو في اعتقاده أن المبدأ نفسه يستطيع تطبيقه في إيران، وتالياً فإن عدم ردها في سورية كان سببه رفض الأسد طلبات طهران المتكررة بالرد، وليس عدم رغبتها بقصف إسرائيل من سورية.
وقد أعربت إيران مراراً عن استعدادها لاستخدام صواريخها الدقيقة الموجودة في سورية لإرساء ردع حاسم وحقيقي مع إسرائيل مثلما فعل «حزب الله» في لبنان، إلا أن طلبها لم يستجاب.
أما في الملعب الإيراني، فقد غيرت طهران سياستها منذ اغتيال القائد قاسم سليماني في مطار بغداد.
فقصفت القاعدة الأميركية في «عين الأسد» ولم تطلب من حلفائها الاشتراك في الرد. وهذه السياسة الجديدة دفعت بطهران إلى أن تدخل في ساحة المواجهة بنفسها وبقدراتها والقيام هي بالرد على أميركا وإسرائيل لتدافع عن نفسها.
وهذا دليل على أن إيران - التي أصبحت قوة إقليمية يحسب لها حساب - تدافع عن مكانتها الجديدة بنفسها بعد أن أصبحت موجودة علناً في سورية والعراق واليمن - وعبر أقوى حليف لها - في لبنان.
واغتنمت إيران خطأ نتنياهو بضربه مفاعيل ناتانز لتتشدد بمواقفها في فيينا، ولتؤكد أن أحداً لا يستطيع إيقاف تطورها النووي أو الحد من حركتها، وقد قبلت التحدي الإسرائيلي الذي اعتقد خطأ (على لسان رئيس الأركان أفيف كوخافي) أن طهران لا تستطيع تحمل فاتورة الرد.
وأوضحت لنتنياهو أنه سيحرق أصابعه إذا استمر باللعب معها.
وأبلغت الغرب أن لا وقت لديها تضيعه وأن التذاكي في المفاوضات غير مقبول لأن الوقت غير مفتوح إلى ما لا نهاية.
وأعلنت إيران أنها تستطيع إنتاج القنبلة النووية عندما تريد وفي الوقت الذي تحدده من دون أن يستطيع أحد إيقافها، إلا أنها لا ترغب بذلك لأن القنبلة النووية لا تدخل ضمن أهدافها وإستراتيجيتها الدفاعية والهجومية.
لا تطالب إيران بضمانات بألا يعاد تمزيق الاتفاق النووي مثلما فعل دونالد ترامب عام 2018. بل تؤكد أن طلبها الأول والأخير والوحيد هو رفع جميع العقوبات والتأكد من رفعها، لأن ضمانتها هي أصبحت واضحة، إذا خرقت أميركا الاتفاق ووضعت عقوبات عليها فإن إيران ستتجه نحو التخصيب السريع وصولاً إلى 90 في المئة لأنها تمتلك التكنولوجيا لذلك والمعرفة المطلوبة لاجتياز الخط الأحمر الذي يخشاه الغرب.
لم تعد إيران تعتمد على الضمانات الروسية أو الصينية أو الأممية لأن هذه الدول لا تستطيع رفع العقوبات الأميركية عن نفسها. ولا تثق طهران بأوروبا التي لم تتحرك - ولو أنها لم تغادر الاتفاق - عندما مزق ترامب المعاهدة.
وها هي تعتمد على رفع التخصيب والإنتاج إلى المستوى الذي ترتعد من فرائسه إسرائيل ولا تريده أميركا.
وتقول طهران لواشنطن إنها غير معنية بالداخل الأميركي الذي يقف بوجه الرئيس جو بايدن في محاولة لمنعه من العودة إلى الاتفاق، فهي معنية بنقطتين لا ثالث لهما: رفع جميع العقوبات أو الدورة النووية الكاملة نحو 90 في المئة وبخطى مسرعة.
فالطابة، في تقديرها، في الملعب الآخر وعلى بايدن أخذ القرار وتنفيذه بسرعة ويبقى نتنياهو خارج الملعب يتخبط بأزماته.