في وقت تَركَّزَ انتباهُ المراقبين على شؤون التعاون العسكري والاستخباراتي والأمني في الحوار الإستراتيجي بين واشنطن وبغداد، والذي انعقدت أحدث جلساته الأسبوع الماضي، تبيّن أن التحالف الأميركي - العراقي بدأ يتباحث بشكل أوسع في شؤون غير أمنية، في طليعتها الشؤون الاقتصادية، إذ تعتقد إدارة الرئيس جو بايدن أن نمو العراق اقتصادياً يسمح لبغداد بالتعامل مع الملفات الشائكة الأخرى، خصوصاً موضوع الميليشيات الموالية لإيران، بشكل أفضل.
وورد في البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأميركية عن الحوار بين البلدين، الذي انعقد عبر الإنترنت وترأسه وزيرا خارجية البلدين، أن «الولايات المتحدة أعربت عن دعمها لجهود العراق لإصلاح قطاع الطاقة حتى يحصل مواطنوه على كهرباء أرخص بشكل موثوق، مع انقطاع أقل في التيار الكهربائي». كما «أكد البلدان دعمهما للعراق في تنويع مصادر طاقته من خلال بناء علاقات أوثق مع جيرانه في الأردن وفي دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك من خلال المضي قدما في مشاريع ربط الشبكة الكهربائية».
وظهرت أولى ثمار الحوار الإستراتيجي في العقد الذي وقعته، في دبي هذا الأسبوع، وزارة المال العراقية مع شركة «جنرال إلكتريك» الأميركية لتأهيل وتطوير سبعة محطات توليد كهرباء في عموم البلاد هي القدس وخيرات وجنوب بغداد والحلة والمسيب والحيدرية وكربلاء. وتنتج هذه المحطات، مجتمعة، 2.7 غيغاوات من الكهرباء.
وتشير بيانات وزارة الطاقة الأميركية إلى أن ذروة الطلب على الكهرباء في العراق، في موسم الصيف الحار، تبلغ 27.5 غيغاوات، وأن لدى العراق قدرة على توليد 33 غيغاوات. لكن انعدام الصيانة لمحطات الانتاج وشبكات التوزيع، فضلاً عن انخفاض فعالية الانتاج والتوزيع العراقية لأسباب متعددة، منها أن أكثر من نصف الكهرباء تتم سرقتها، كلها أثّرت على الكهرباء العراقية وأدت لانقطاع التيار، الصيف الماضي، وهو ما ساهم في تأجيج الاحتجاجات الشعبية في الشارع.
وتضيف بيانات الطاقة الأميركية أن «قطاع الكهرباء في العراق يعتمد على إيران في الكثير من إمداداته»، وأنه «في عام 2019، تم توليد نحو 23 في المئة من كهرباء العراق بالغاز الطبيعي المستورد من إيران، كما استورد العراق نحو خمسة في المئة من الكهرباء من إيران».
ويأمل الأميركيون أن يؤدي دعمهم لقطاع الطاقة العراقي لاستقلاليته عن إيران، وهي سياسة تتعارض تماما مع سياسة طهران، المتمحورة حول ما يسميه مرشدها الأعلى علي خامنئي «اقتصاد المقاومة»، ويقصد به «اكتفاء ذاتياً» إيرانياً بالتعاون مع الدول المتحالفة مع إيران والمجاورة لها، مثل العراق وسورية ولبنان وأفغانستان. ويقول المسؤولون الإيرانيون أن تكلفة مبيعاتهم الغاز والكهرباء للعراق بلغت تسعة مليار دولار. وسمحت إدارة الرئيس بايدن للعراق بالإفراج عن أربعة مليارات وتسديدها للإيرانيين.
لكن المسؤولين العراقيين يعتقدون أن إيران تفرض تسعيرة مرتفعة على العراقيين، وأن بتسعة مليارات دولار كان يمكن للعراقيين زيادة قدرتهم الإنتاجية وتصدير الفائض إلى دول الجوار.
ومع تأمين التيار الكهربائي لكل العراقيين في موسم الصيف، تأمل واشنطن بإصابة عصفورين بحجر، إذ يتحرر العراق من الاعتماد على إيران، ويمكنه تفادي الاحتقان الشعبي في الشارع.
وفي السياق نفسه، تضمّن الحوار الإستراتيجي الأميركي - العراقي الحديث عن كيفية دعم الاقتصاد العراقي. ويتوقع «صندوق النقد الدولي» أن ينمو اقتصاد العراق بواقع واحد في المئة هذا العام، بعدما تقلّص بواقع أربعة في المئة العام الماضي. ويتوقع الصندوق أن تبلغ نسبة النمو الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط اثنين ونصف في المئة.
وتأمل واشنطن في أن تساهم في رفع نسبة نمو الاقتصاد العراقي، خصوصاً بعدما نجحت إصلاحات رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في ضبط نزيف احتياطي العملات الأجنبية، الذي تستخدمه بغداد لتثبيت سعر صرف الدينار. وتشير البيانات العراقية إلى أن حجم الاحتياطي العراقي بلغ 60 مليار دولار، وهو الأعلى منذ فترة.
وكانت «غرفة التجارة الأميركية»، وهي هيئة غير حكومية مركزها واشنطن، أصدرت بياناً قبل موعد انعقاد الحوار الأميركي - العراقي ضمنته دعوة للتعاون في أربعة مجالات بين البلدين هي الصحة، والغاز، والمال، ونمو الوظائف في القطاع العراقي الخاص.
وذكرت الغرفة في بيان أن «هناك فرصة لدفع الإصلاحات وخلق شراكات جديدة في قطاع الرعاية الصحية، وهو ما لديه تأثير واسع وإيجابي على العراقيين».
وأضافت أن العراق «لديه الموهبة البشرية للتفوق في هذا المجال، ومع ذلك، يعاني من بيروقراطية ضخمة، وسياسات وأنظمة قديمة تعيق التعاون والوصول إلى حلول صحية مبتكرة».
وأوصت الغرفة بإقامة «حوار صحي بين الولايات المتحدة والعراق يركز على الإصلاح والتعاون في مجال الرعاية الصحية... ومن الضروري أن يكون القطاع الخاص جزءا من هذه المناقشة المستمرة».
وعن الغاز، أشارت الغرفة إلى تقنية يستخدمها العراقيون في استخراج النفط، وهي التي تقضي بحرق الغاز الذي يرافق النفط المستخرج لتصفية الأخير وتنقيته. وأفادت الهيئة الأميركية بأن هذه التقنية صارت قديمة وتتعارض مع الأساليب القائمة، وتساهم في تأزيم الاحتباس الحراري وتغير المناخ، لذا دعت إدارة بايدن إلى تشجيع الشركات الأميركية للاستثمار في القطاع لتحديثه واستثمار الغاز بدلاً من حرقه. وعن القطاع المالي العراقي، أوردت الغرفة في بيانها أنه «يمكن أن يؤدي تطوير قطاع خدمات مالية حديث في العراق إلى تعزيز الاستثمار الأميركي ومشاركة القطاع الخاص، ما سيكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد بأكمله». وأضافت أنه «يجب تمكين البنوك التجارية للقطاع الخاص في العراق من لعب دور مادي في تمويل مشاريع القطاع الخاص، التي تولد فرص العمل والنمو الاقتصادي بتمويل مشترك من الولايات المتحدة والشركاء الدوليين الآخرين».
وختمت بأنه «في حين أن بنوك الدولة مهمة لتنمية العراق، يجب أن تلعب البنوك الخاصة أيضاً دوراً في إنشاء الائتمان وتلقي الودائع، خصوصاً الشركات الصغيرة والأفراد، كما يجب السماح للبنوك الخاصة ذات رأس المال الجيد بالتنافس على العقود الحكومية وقبول الودائع الحكومية».
الحوار الأميركي - العراقي لم يعد مقتصراً على العسكر الأميركي، وعددهم، وأماكن انتشارهم، ودورهم، وجدول انسحابهم، بل صار منصباً على تنمية الاقتصاد والقدرات العراقية، ودمج الاقتصاد العراقي باقتصاد المنطقة، وهذا ما يتناسب ومطالب المتظاهرين العراقيين، وهذا ما يحرم هواة الحروب فرص تجنيد الشباب الذين يعانون البطالة ولا يجدون أمامهم غير الميليشيات.