يشارك غداً الوفد الأميركي في المفاوضات النووية غير المباشرة مع إيران، في فيينا، بعدما نفدت منه كل الوسائل الديبلوماسية الممكنة لحمل كل من طهران وواشنطن على العودة إلى الاتفاق النووي الذي كان الرئيس السابق دونالد ترامب أعلن خروج بلاده منه وأعاد فرض عقوبات اقتصادية أحادية على إيران.
في الأيام الأولى التي تلت فوز الرئيس جو بايدن بالرئاسة في نوفمبر الماضي، بدأ المبعوث الأميركي المسؤول عن الملف الإيراني، روبرت مالي، والمجموعة المؤيدة للعودة إلى الاتفاق النووي، بتسويق أن العودة محسومة، وأن جلّ ما هو مطلوب هو عودة البلدين إلى ما كانت الأمور عليه قبل مايو 2018، أي قبل إعلان ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق.
لكن اتضح أن الواقع أصعب مما كان يتخيله المبعوث مالي، إذ أصرّت إيران، على لسان مرشدها الأعلى علي خامنئي، أن أميركا هي التي خرجت من الاتفاق أولاً، وأن عودة إيران إلى تخصيب كميات أكبر من اليورانيوم بدرجات أعلى كانت بسبب عدم التزام واشنطن بالاتفاق. لذا، من وجهة نظر خامنئي، لا بد من عودة أميركا أولاً لالتزاماتها، حتى تعود إيران.
إلا أن إدارة بايدن اعتبرت أنه لا يمكن لواشنطن العودة إلى اتفاق خرجت منه إيران كذلك، وأن عودة واشنطن تشترط عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل أن ينسحب منها ترامب، وهو ما دفع بايدن شخصياً إلى رسم «خطه الأحمر»: «لا عودة أميركية قبل عودة إيران».
هكذا، وصلت الأمور إلى طريق مسدود، مع إعلان أعلى مسؤولين في كل من أميركا وإيران رفضهما العودة للاتفاق النووي قبل الآخر، وهو ما دفع المستميتين على إعادة إحياء الاتفاق إلى محاولة الخروج بحلول مبتكرة، فقامت «مجموعة الأزمات الدولية»، التي كان يرأسها مالي، بتقديم ورقة جاء فيها أنه يمكن الالتفاف على الطريق المسدود عبر عودة تدريجية منسّقة من قبل الطرفين، أي أن تقوم إيران بتقديم تنازل واحد، مثل إعلانها تجميد كمية أو نسبة التخصيب، مقابل قيام واشنطن برفع العقوبات عن الشحن البحري الإيراني، ثم تقوم طهران بتخفيض كمية اليورانيوم المخصب المخزن لديها، فتقابلها واشنطن برفع العقوبات المفروضة على مبيعات النفط الإيرانية، وهكذا تكون العودة تدريجية من قبل الطرفين إلى أن يصل كل منهما إلى ما كان عليه قبل مايو 2018، ويعود بذلك الاتفاق النووي إلى الحياة كاملة.
واقترحت «مجموعة الأزمات الدولية» أن تقوم العواصم الأوروبية بتذليل عقبات كانت عانت منها إيران على إثر توقيع الاتفاق للمرة الأولى في أكتوبر 2015، إذ تفادت الشركات الأوروبية والأميركية العودة إلى السوق الإيرانية بسبب قلقها من تغير الأوضاع، وهو ما حصل فعلياً مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض مطلع 2017 وانسحابه من الاتفاق وقيامه بفرض عقوبات، وهو ما يعني أن التقلبات المحتملة تخيف المستثمرين، حتى بعد عودة الديموقراطيين إلى الحكم في واشنطن، إذ يمكن أن تليها عودة الجمهوريين والعقوبات.
ومن الاقتراحات لتذليل التردد الإيراني في العودة للاتفاق أن تقوم أوروبا بتحفيز الاستثمارات في إيران، بما في ذلك عن طريق تقديمها تخفيضات ضريبية للشركات الغربية العازمة على الاستثمار في السوق الإيرانية.
لكن أي من مقترحات «مجموعة الأزمات الدولية» لم تلقَ استحساناً لدى خامنئي، إذ بعدما أعلنت إيران موافقتها على المشاركة بالمفاوضات غير المباشرة في فيينا، وهو ما بدا تنازلاً إيرانياً إذ سبق لطهران أن رفضت أي حوار في زمن ترامب من دون أن تقوم أميركا أولاً برفع عقوباتها ثم رفضت الحوار مجدداً بعدما وافق بايدن على المشاركة به، رمت طهران بعقبات جديدة أمام إعادة إحياء الاتفاق النووي بنسفها إمكانية العودة التدريجية من قبل الطرفين، ومطالبتها برفع أميركي «دفعة واحدة» لكل العقوبات، حتى تعود إيران للالتزام بالاتفاق، وهو ما ورد على لسان الناطق باسم وزارة خارجيتها سعيد خطيب زاده، الذي قال إن إيران لا تقبل الخطة التدريجية، وأن «سياسة الجمهورية الإسلامية الثابتة والأكيدة هي رفع أميركا لكل العقوبات» دفعة واحدة.
وفي وجه التعقيدات الإضافية، لم يتبقَ أمام مالي وجماعته إلا تبني ما أمكن من خطاب زعماء إيران في محاولة لخطب ودهم، من قبيل مهاجمة ترامب، ووصف سياسة «أقصى الضغط» التي أعلنها الرئيس السابق بالسياسة الفاشلة، وهو ما قاله مالي في إطلالاته الإعلامية المتكررة، وهو ما كتبه الباحث في «مجموعة الأزمات الدولية» نيسان رفاتي، الذي كتب أنه «إذا كانت إدارة ترامب تأمل في أن تنحني طهران لإرادتها، فهي كانت مخطئة، إذ إن طهران أطلقت، في منتصف عام 2019، إستراتيجية مضادة أطلقت عليها اسم المقاومة القصوى».
وأضاف رفاتي أنه «بدلاً من الإذعان لمطالب الإدارة الأميركية وإثبات أن ما اعتبرته إيران حصاراً اقتصادياً لن يمر من دون رد، ردت إيران على الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين بشكل مباشر، ومن خلال وكلائها المحليين في أماكن مثل العراق والخليج».
وتابع أن إيران «انتهكت بشكل منهجي التزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة بدعوى أن تبخر الفوائد المالية التي وعدت بها الصفقة يبرر خفض امتثال إيران».
لكن تهديدات أصدقاء إيران لا يبدو أنها تخيف إدارة بايدن كثيراً، وهو ما دفع مالي إلى محاولة حض الأوروبيين إلى حمل طهران على العودة للاتفاق النووي حتى تعود الولايات المتحدة، فكان في هذا السياق لقاء المجموعة الدولية التي وقعت الاتفاق، أي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وألمانيا، من دون أميركا. ويعتقد بعض المسؤولين الأميركيين أن طهران حريصة على عدم التخلي عن الاتفاق النووي حتى تحافظ على علاقة جيدة بالأوروبيين وروسيا والصين، على أمل أن يقوم هؤلاء بمساعدتها على تحييد العقوبات الأميركية.
لكن لقاء المجموعة الدولية من دون أميركا لم يخرج بأي مواقف يمكنها أن تحمل إيران على تغيير سياستها والعودة أولاً إلى الاتفاق النووي، كما يطالب بايدن، أو تلقف المخرج البديل الذي يقدمه مالي، وهو ما يعني أنه حتى الساعة، لا توجد دروب تؤدي لعودة الاتفاق النووي، وهو ما يجعل من المفاوضات غير المباشرة في فيينا، يوم غدٍ، بمثابة مناسبة إعلامية من دون أي آفاق واضحة لها في اختراقات ديبلوماسية أو سياسية.