من المسلم به لدى فقهاء القانون، أن الإنسان يتمتع بحقوق لصيقة بشخصيته تسمى الحقوق المدنية، ومنها ما يحمي الفرد في كيانه المادي ومن هنا ظهر في الفقه القانوني مصطلح معصومية جسم الإنسان حيث تكفل القوانين سلامة حياة الإنسان وحرمة جسده، وقد أكدت المادة (3) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تلك الحقوق بنصها على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه، ومن لوزام معصومية جسم الإنسان عدم جواز إجراء تدخل طبي أو جراحي أو منحه عقاراً أو دواءً أو لقاحاً دون موافقته المسبقة المستنيرة على ذلك، إلا أن هذا المبدأ ليس مطلقاً وترد عليه استثناءات عديدة، فإذا سوغت المصلحة العامة المساس بجسم الفرد، تغلب حينئذ مصلحة المجتمع على المصلحة الفردية، ومن مصاديق ذلك التطعيم الإجباري، ولذا فقد أجازت القوانين السابقة والحالية قيام وزير الصحة بإصدار قرار بإجراء التطعيم الإجباري على السكان.
ففي عهد المغفور له الشيخ عبدالله السالم صدر القانون رقم (29) لسنة 1960 بالاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض المعدية، ونظم في مادتيه (11) و(12) مسألة التطعيم للوقاية من الأمراض السارية تنظيماً ليس له نظير في القانون الحالي، وأجاز لدائرة الصحة العامة إصدار قرار بتطعيم جميع سكان الجهة الموبوءة إذا رأت ضرورة لذلك، كما نص على مجانية التطعيم وحق الشخص في اختيار طبيب آخر لتطعيمه، وصلاحية الطبيب بإصدار شهادة تفيد تلقي الشخص للتطعيم، وإعفاء من يثبت سبق تطعيمه من تلقي اللقاح طالما كان في دور المناعة، وتأجيل تطعيم من لا يحتمل اللقاح لضعف فيه أو مرض وإعفائه كليا من التطعيم، كما نصت المادة (13) من هذا القانون على حق مندوبي دائرة الصحة العامة بدخول المساكن في حالات الضرورة بعد إخطار صاحب المسكن أو من ينوب عنه بذلك، وقد ألغي هذا القانون بالقانون رقم (8) لسنة 1969 ولم يعد سارياً.
وبإجراء مزيد من البحث في الجريدة الرسمية، نجد أنه قد صدر المرسوم الأميري رقم (33) لسنة 1960 بقانون إجراءات الرقابة الصحية على الأشخاص القادمين إلى الكويت من جهات موبوءة ببعض الأمراض المعدية، ونظم الحالات التي تتطلب من القادم تقديم شهادة تفيد تلقيه التطعيم، إلا أن هذا القانون لا ينطبق إلا على سبعة أمراض معدية فقط، وليس عاماً وشاملاً لجميع الأمراض المعدية والسارية، فلا مجال لتطبيقه مثلا على كوفيد 19، وبناء على القانون سالف الذكر وفي عام 1966 أصدر وزير الصحة العامة القرار رقم (57) لسنة 1966 بإجراء التطعيم العام ضد الكوليرا لجميع السكان، لكن القرار لم يشر إلى أن التطعيم إلزامي، إلا أن الوزارة ألزمت المسافرين إلى الخارج بأن يحصلوا على شهادات تلقيح دولية بعد تلقي الجرعة الثانية من تطعيم الكوليرا.
كما صدر حينذاك التعميم رقم (71) لسنة 1966 والمستند إلى القانون سالف الذكر، وقد ألزم التعميم كل من يقدم من العراق إلى الكويت بأن يكون لديه شهادة تطعيم ضد الكوليرا، وذلك لأن الوباء كان متفشياً في العراق حينها، وأن تجرى على القادم – سواء كان أجنبياً أو مواطناً – الكشوفات الطبية على النحو المبين في التعميم، وإن لم تكن لدى القادم شهادة بإنهاء التطعيمات اللازمة فإنه يعزل في أحد المعازل التي أعدتها وزارة الصحة، ومن يرفض تلك الإجراءات لا يسمح له بدخول البلاد ويعاد فوراً إلى العراق.
ثم صدر القانون رقم (8) لسنة 1969 بالاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض السارية – والذي ما زال سارياً – ونص على جواز إصدار وزير الصحة قراراً بإجراء التطعيم الإجباري، وذلك في مادته رقم (15) وكذلك في مادته رقم (12) المعدلة بالمرسوم بالقانون رقم (5) لسنة 1979، حيث منحت هاتان المادتان الوزير سلطات استثنائية لحماية البلاد من تفشي الأوبئة وذلك بالاتفاق مع الوزراء المختصين وبالاستعانة بأفراد الشرطة والقوات المسلحة لتنفيذ قراراته، ومن تلك السلطات التي نص عليها القانون تحديداً هي إجراء التطعيم الإجباري العام للسكان ويمكن لأعضاء الهيئة الطبية دخول المساكن في أي وقت لإجراء التطعيم جبراً ودون حاجة إلى موافقة صاحب المسكن على الدخول وكذلك دون موافقة الشخص الذي يتم تطعيمه، فلوزير الصحة صلاحية إصدار قرار بإجراء التطعيم الإجباري لوقاية المواليد أو فئة معينة من السكان أو جميع السكان من أي مرض سارٍ، وفقاً للقانون المشار إليه أعلاه.
ولا يرد قيد على حق أعضاء الهيئة الطبية بدخول المساكن، إلا ما أورده المرسوم بالقانون رقم (19) لسنة 1980 بتعديل المادة (13) من القانون رقم (8) لسنة 1969 وهو أن يخطر صاحب المسكن أو من ينوب عنه وأن يبرز الموظف ما يثبت شخصيته، ولم يتطلب القانون إذن صاحب المسكن بالدخول، فيحق لموظفي وزارة الصحة المخولين من قبلها أن يدخلوا المساكن والمنازل من دون إذن أصحابها وتطعيمهم تطعيماً إجبارياً رغماً عن إرادتهم، إذا أصدر الوزير قراراً بذلك، ولهم أن يستعينوا بأفراد قوة الشرطة لأداء مهمتهم.
وعندما نتحدث عن لقاح مرخص تجاوز مراحل التجارب السريرية المعتمدة، فنحن لا نتحدث بطبيعة الحال عن إجراء تجارب على السكان، فهذا نقاش خارج عن نطاق مقالنا، وهكذا فإن الحديث دستورياً وقانونياً يصبح فيما لو كان قرار تلقي اللقاح محض قرار شخصي، وأن الامتناع عن تلقيه حرية فردية، وحق من حقوق الإنسان النابعة من مبدأ معصومية جسمه وحقه في اختيار علاجه الطبي، أم أنه ليس كذلك، فمن يمتنع عن تلقي اللقاح يصبح حاملاً للمرض وناقلاً له وعنصراً معدياً وقاتلاً للآخرين، بما لا يمكن معه القول بأن قرار تلقي اللقاح من عدمه هو قرار شخصي، بل يضحي هذا القرار منبت الصلة بالحرية الشخصية، وماساً بالمجتمع ككل ومتعلقاً بالمصلحة العامة.
فإنه، إن كان الأمر كذلك، نرى أن التطعيم الإجباري له أساسه وأصله في المنطق والقانون والدستور، وأنه لا يتنافى مع حقوق الإنسان بأي وجه من الوجوه، ولكن المسألة في نهاية المطاف لا تخلو من جوانب علمية طبية فنية وثيقة الصلة بالجوانب الفقهية الدستورية القانونية، ومن تلك الجوانب الفنية ما لو كان متلقي اللقاح يصبح غير ناقل للعدوى من عدمه، فإنه إن ثبت أن متلقي اللقاح إنما يتحصل على مناعة لشخصه فقط، ولكن اللقاح لا يحول دون نقل العدوى انقطعت الصلة بينه وبين المصلحة العامة وأصبح محض قرار فردي لا يجوز إرغام الأفراد عليه.
من ناحية أخرى فإن صدور ترخيص طارئ لتلك اللقاحات وتسجيل حالات من الأعراض الجانبية المعتبرة والشديدة الناتجة عن تلقيها يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أيضاً، فلا بد أن ترجح كفة المصلحة على المفسدة بشكل معتبر، والواقع أنه حتى الآن لم تُسجل أعراض جانبية معتبرة تعزز حجة معارضي التطعيم، بل إن بعض التقارير الأخيرة بدأت تبشر بأن اللقاح لا يحقق المناعة للشخص فحسب بل يجعله غير ناقل للعدوى بما يؤدي إلى المناعة المجتمعية، وهو أمر إن ثبت بدليل علمي معتبر، دفع بقوة نحو ترجيح رأي أنصار التطعيم الإجباري.