بدأت الملامح الأولى تتجلى للخطة التي نشرتها «مجموعة الأزمات الدولية»، قبل أيام من تعيين رئيسها روبرت مالي حول إعادة إحياء الاتفاقية النووية مع إيران، مع إعلان طهران تراجعها عن سلسلة من الخطوات التصعيدية، وسماحها لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية باستئناف عمليات التفتيش، بحسب ما هو متفق عليه في الاتفاقية.
وجاء التراجع الإيراني بعد يوم واحد فقط على تراجع الولايات المتحدة عن إصرارها على أن أي مفاوضات أو عودة، للاتفاقية تشترط عودة إيران إلى ما كانت عليه نووياً قبل انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من اتفاقية فيينا، وإعلان واشنطن الانضمام لمفاوضات دعا إليها الأوروبيون مع طهران.
وفي وقت تواصل أوروبا قيادة عودة الطرفين الأميركي والإيراني إلى الاتفاقية، وفي وقت تقوم بتقديم تحفيزات من قبيل عقد مؤتمر، بين الأول والثالث من مارس المقبل، للاستثمار في إيران، يمضي الديموقراطيون في الولايات المتحدة، في تضخيم الخطر النووي الإيراني لإقناع الرأي العام بأن عودة أميركية غير مشروطة، هي أفضل الحلول، وأنها لن تكون حلاً نهائياً، بل مقدمة لجولات أخرى من المفاوضات مع إيران حول «نشاطاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة»، أي رعايتها لميليشيات في الخارج، ولضبط برنامجها الصاروخي، في وقت تصرّ طهران على أن المفاوضات الوحيدة التي توافق عليها مع الأوروبيين والأميركيين هي حول العودة للاتفاقية، أو ربما تعديل بنود فيها.
وتكرر أن موضوعي الميليشيات والصواريخ، غير مطروحين للتفاوض بأي شكل.
ويدرك الديموقراطيون في واشنطن ممن يقودون إدارة الرئيس جو بايدن، ومعهم حلفاؤهم في العواصم الأوروبية، أن إيران لن تقبل مزج التفاوض النووي مع التفاوض حول الشؤون الأخرى، وهو ما قد يتطلب «محفزات» أخرى، لحملها على تقديم تنازلات حول الميليشيات والصواريخ.
وفي هذا السياق، عقد «معهد تشاتهام هاوس» البريطاني مؤتمراً لأبرز المسؤولين والخبراء المتابعين للملف الإيراني، ونشر النتائج في مجلة «فورين أفيرز» المرموقة، من دون أن يسمي أسماء المشاركين.
وجاء في التقرير أن معظم الخبراء شددوا «على أن الولايات المتحدة يجب أن تدخل الاتفاق النووي مرة أخرى، ولكن هذه المرة مسلحة بخطة عمل واضحة لمعالجة أوجه القصور فيها»، وعلى وجه الخصوص، شدد المشاركون على الحاجة إلى «مخطط لحل النزاعات الإقليمية بعد العودة للاتفاقية».
وأجمع المشاركون على أنه «فور انضمامها إلى الاتفاق النووي الموقّع في العام 2015، وسّعت إيران تواجدها في العراق واليمن ولبنان وسورية، لذلك يجب على إدارة (الرئيس جو) بايدن العودة إلى الاتفاقية بخطة محددة بوضوح للعمليات الإقليمية الموازية والمتعددة الطرف التي ستتبعها بسرعة من خلال جعل المفاوضات قائمة قدر الإمكان»، حسب التقرير، الذي أضاف أنه يمكن للإدارة الأميركية «تهدئة مخاوف المعارضين في الكونغرس وكذلك المعارضين الإقليميين، طالما أن إدارة بايدن تتشاور وتنسق مع الشركاء الإقليميين في شأن خططها».
وأشار التقرير إلى أن المشاركين اعتبروا أنه «من خلال إنشاء مسارات حل موازية للنزاع، يمكن لإدارة بايدن أن تظهر أنها ترسم مسارها الخاص بدلا من تكرار التاريخ»، ويمكنها أن «تصر على التزام جميع الأطراف بالمشاركة في عملية المتابعة كجزء من التفاوض على الاتفاق النووي وتنفيذه».
وختم التقرير بأنه «يمكن إغراء إيران بالمشاركة بوعدها بتخفيف المزيد من العقوبات، أو ضخ استثمارات إضافية في اقتصادها، مقابل التزام طهران بمواقف حاسمة لتهدئة مخاوف الأطراف الإقليمية».
لكن التقرير البريطاني لا يبدو أنه أخذ بالاعتبار أن لا طموح لدى القيادة الإيرانية في تخفيف المزيد من العقوبات، وأن جلّ ما يهمها هو قيام الولايات المتحدة برفع عقوبات كافية لتصدير أكثر من مليوني برميل نفط يوميا، وهو ما يعود على النظام بأكثر من 30 مليار دولار سنوياً، ويكفي لتمويل عمل النظام ونشاطاته الإقليمية.
وحتى توازن «فورين أفيرز» بين المقالة التي تعتبر أن الاتفاقية غير كافية من أجل تثبيت الأوضاع في المنطقة، قامت بنشر مقالة بقلم السيناتور عن ولاية كونيتيكت كريس مورفي.
ومورفي من المغمورين وحديثي العهد في شؤون السياسة الخارجية، لكنه يطمح للعب أدوار فيها، وهو ما دفعه قبل عامين إلى الانخراط في لجنة فرعية في مجلس الشيوخ لشؤون السياسة الأميركية تجاه أوروبا.
لكنها لجنة لا أضواء عليها، فما كان منه إلا أن سافر إلى أوكرانيا قبل عام، ودبّر - في طريق عودته - محطة سريعة في مدينة ميونيخ الألمانية، حتى ينعقد المؤتمر السنوي للدفاع والذي يحضره كبار مسؤولي السياسة الخارجية والدفاعية حول العالم. وبالاستنجاد بأصدقاء له، وقع مورفي في أيدي «أصدقاء إيران» في واشنطن، الذين دبروا له لقاء مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، على هامش مشاركته في المؤتمر.
لكن مورفي لم يكن نسّق موضوع لقائه مع مسؤول في حكومة أجنبية مع وزارة الخارجية، فأثار ذلك زوبعة في واشنطن حاول تفاديها بالإشارة إلى أن سبب اللقاء، أن على أميركا أن تتحاور مع الأعداء، وأنه حذّر ظريف من قيام بلاده باستهداف قواعد أميركية في العراق... ولكن هذا كان قبل عام.
منذ ذلك الوقت، تحول مورفي، لا إلى أشد المدافعين عن النظام الإيراني فحسب، بل إلى أشد المعادين لدول مجلس التعاون الخليجي. في هذا السياق، جاءت مقالته في العدد الأخير من «فورين أفيرز»، التي دعت إدارة بايدن إلى التخلي عن «عقيدة كارتر»، المبنية على تأمين مظلة حماية أميركية للخليج العربي بسبب أهمية مصادر الطاقة فيه استراتيجياً.
وقال إن «أميركا صارت شبه مكتفية، وأنه يمكنها الاستعاضة عن الطاقة الخليجية باستيراد الطاقة من المكسيك، وأن على واشنطن ألا تكترث لتهديدات الخليجيين بالانقلاب على أميركا والتحول إلى حلفاء الصين وروسيا، بل لندعهم يقومون بذلك لأن مصالح أميركا في الخليج تغيرت لكن سياستها فيه لم تتغير».