أكثر الأحزاب العربية والإسلامية، قامت من أجل التغيير فقط وثوّروا الشارع، منذ ما يزيد على قرن من الزمان، ولكنهم سقطوا وتلاشت المبادئ والشعارات!
والسبب بسيط وهو أنها لم تسلك سبيل الإصلاح رغم وضوحه قال تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)، فلم يأتوا البيوت من أبوابها، وهناك القليل القليل من الناس مَن يسلك السبيل الصحيح للإصلاح، ذلك أنّه يرتبط أساساً بالإرادة والقصد حيث إنّ المعونة تنزل على العبد على حسب إخلاصه وقيامه بالمأمور به شرعاً، وأنّ كل مَن سلكَ هذا الطريق واستقام على الجادة فقد جرت العادة في السُّنن الإلهية أنّه يُعان ويُوفق للصواب، وأنّ الله تعالى يهبه فقه الواقع وهو نوعان: مُكتَسَب يُدركه العبد بجده واجتهاده، ونوع عِلم لَدُنِّي يهبه الله لمَن يمنّ عليه من عباده (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ).
وهذا السبيل في الإصلاح، هو سبيل الأنبياء والرسل عليهم السلام ومَن سار على هديهم.
بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكِبر من الأحزاب المُتأسلمة، الذين ينظرون إلى الناس على أنّهم أدنى منهم منزلة.
وأهل الإصلاح قد زَكّت نفوسهم وارتفعت هِمَمُهم عن سفاسف الأخلاق، فساروا في مكافحة الفساد بعلم وبصيرة ووجّهوا الناس إلى الخير وإلى طريق الرُّشد وتركوا ما سِوى ذلك ممّا هو ضارّ أو ليس فيه فائدة، ومؤسف حقاً أنّ أكثر المُتصدرين في المشهد السياسي ومحاربة الفساد ليس لهم قوة الصبر على الاستمرار بهذا الطريق، والقوة ليس المقصود فيها الصراخ والاتهام ونشر الفضائح!
(فليس الشديد بالصُّرعة) إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، والنتيجة أنّهم يفوتهم الكثير من الخير، فَمَن لا صبر له لا يُدرك البصيرة في الدين ولا الدنيا، ومَن صبر وصابَر وثابَر، أدرك به كلّ أمر سعى فيه مع الإخلاص.
فأهم مقومات الصبر إحاطة الإنسان علماً وخبرة بالفساد وطرقه، مع علمه بالواجب فيه من الصبر مع التأنّي والتثبّت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف حقيقته ومقصوده، وعليه فالواجب لكلّ مَن عزم على محاربة الفساد توطين نفسه على الصبر واحتمال الأذى فيه، مع الأخذ في معاملات الناس وأخلاقهم العفو منها وما سمحت به أنفسهم فلا ينبغي للرئيس أو الزعيم أو النائب، تكليف الناس بما لا يُطيقون أو يشقّ عليهم ويرهقهم فإنّ هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة من كثرة مطالباته وطلباته، والأخذ بعين الاعتبار أنّ الأمور تجري أحكامها على ظواهرها، وتُعلّق بها الأحكام الدنيوية سواء في الأموال والدماء وغيرها والقاعدة تنص على أنّه (يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير) ويُراعى أكبر المصلحَتَيْن.
وهنا قاعدة يجدر بنا الإشارة إليها وهي (إن عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة، وإزالة المفسدة أنّه يجوز ولو بلا إذن، حتى لو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير).
إذا كان للمصلحة العامة مثلما يعمل الإطفائي في حال الحريق الكبير، فإنّه قد يكسر بعض النوافذ والأبواب، وقد يهدم الجدران المحيطة بالحريق من أجل محاصرته، كما اتفق العقلاء على أنّ طريق الإصلاح طويل، لكنّه مستقيم ويصل للمقصود بخلاف الطرق الملتوية الأخرى، وشاهدنا كما شاهد غيرنا خروج الكثير من السياسيين والأحزاب التي رفعت شعارات برّاقة، فخرجوا من الحياة السياسية إمّا بفضائح مالية أو أخلاقية وتجد الواحد منهم يعيش كما يعيش عوام الناس، وقد انقلب على عقبيه بعدما رفع عقيرته بالإصلاح؟ ومحاربة الفساد!، وهنا درس للجميع وهو أن يكون مَن تصدّى للإصلاح بحالة من الإيمان واليقين بحيث لا يزعزعه لعاعة من الدنيا، وعليه فلابد من إعادة ترتيب الصفوف للاستعداد لنزول طريق الإصلاح بفريق من أهل الكفاءة، فإذا فقدنا واحداً قام غيره مقامه وهكذا، وأن يكون قصد الجميع إقامة دين الله تعالى بحسب الإمكان، ولا يكون لهم قصد في فلان دون فلان، فبهذا التجرد يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم.
الخُلاصة: ينقصنا اليوم الإخلاص للنهوض مجدداً، فهذا كله لا يكون إلّا بتقوى الله تعالى فهي أعظم زاد لطريق الإصلاح، فهي التي تفتح قلوب المؤمنين للمعرفة، وتُهيئ أرواحهم للتعليم، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه)، فقد عطف الله العلم على التقوى، وهذا دليل على أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم، قال تعالى: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً).