بين التدهور المُتلازِم مالياً واقتصادياً، وبين «متلازمة التهوّر» السياسي، يمْضي لبنان في ما بات يشبه لعبة «الروليت الروسية» ولكن بنسختها الأكثر رُعْباً بحيث لم يُترَك في اسطوانة «مسدس الحظّ المميت» إلا رصاصة فارغة واحدة.
وهذه الصورة المروّعة للواقع، صارت تشكّل عيّنةً مما يقال في الكواليس والعلن «هجاءً» للطبقة السياسية الغارقة في تَبادُل الاتهامات حول ما آلتْ إليه البلاد، فيما الأزماتُ تلتهم ما تبقى من حلقات أمانٍ تحول دون الانفجار الكبير.
وبينما كانت العدسات أمس شاخصةً على قصر بعبدا حيث عُقِد عصراً لقاءُ وصْل ما انقطع بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري تحت ضغط المسعى البطريركي «المبارَك» من باريس والرامي إلى تدليك مسار تأليف الحكومة الجديدة رغم الاقتناع بأن أفقه مقفلٌ لاعتباراتٍ إقليميةٍ بالدرجة الأولى، برزت مجموعة تطورات ذات صلة بملفات مالية - مصرفية وديبلوماسية ومعيشية تقاسمتْ المشهد الداخلي الذي دخل مرحلة ترقُّب شديد لما سيحمله اليوم على صعيد الملف الحكومي بعد الجو الايجابي الذي أشاعه الحريري بإعلانه أن الاجتماع مع عون «كان ايجابياً وساده انفتاحٌ وسنجتمع غداً (اليوم) واللقاءات ستكون متتالية للخروج بصيغة قبل الميلاد» الجمعة.
وأبرز هذه التطورات:
* الإطلالة الأميركية عبر وزير الخارجية مايك بومبيو على الوضع اللبناني من زاوية ملف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، حيث أعلن في بيان «أن الولايات المتحدة مستعدة لمواصلة العمل مع إسرائيل ولبنان في مفاوضات في شأن الحدود البحرية، حيث تكافح الدولتان للتوصل إلى اتفاق»، موضحاً «للأسف، على الرغم من النيات الحسنة لكلا الجانبين، فإن الطرفين متباعدان».
وأضاف: «تظلّ الولايات المتحدة على استعداد للتوسط في مناقشات بنّاءة وتحض الجانبين على التفاوض على أساس الادعاءات البحرية الخاصة بكل منهما التي أودعاها في السابق لدى الأمم المتحدة».
وجرى التعاطي مع هذا الموقف، الذي يترافقُ مع مناخاتٍ عن عقوبات جديدة مرتقبة على شخصيات لبنانية قبل تسلُّم جو بايدن الحُكْم، على أنه بمثابة وضْعٍ شروط، من الإدارة التي تستعدّ للرحيل عن البيت الأبيض، تكون بمثابة «سقفِ إلزامٍ» للإدارة الجديدة، لأي استئنافٍ للمفاوضات البحرية التي بدا واضحاً امتعاض واشنطن وتل أبيب من توسيع لبنان «رقعة التفاوض» فيها خارج «خط هوف» (المبعوث الأميركي الأسبق فريدريك هوف) حين باغتَتْ بيروت الجانب الآخَر بخط ترسيم جديدٍ يعطيها 1430 كيلومتراً مربعاً إضافية على الـ 860 كيلومتراً التي كانت تُعتبر المنطقة المتنازَع عليها.
* المعلومات التي كشفت أن المصرف المركزي القبرصي أبلغ فروع البنوك اللبنانية العاملة في قبرص (عددها 12) وجوب تحويل ما يوازي جميع الإيداعات فيها إلى حسابات خاصة لديه، وهو ما اعتُبر في سياقِ حمايةٍ مضاعَفة لهذه الودائع وإيجاد «عازل» بينها وبين السيولة المتناقصة للمصارف اللبنانية التي انكشفت على الديون السيادية للدولة المتعثّرة، والتي يُنتظر أن يؤدي الوفاء بمتطلبات «المركزي» القبرصي الى تعريضها لمزيد من المصاعب هي التي تكابد لتوفير مستلزمات تكوين حساب خارجي (وفق قرار صدر عن المركزي اللبناني) بما لا يقلّ عن 3 في المئة من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية (تنتهي المهلة أواخر فبراير المقبل).
وعُلم أن مديري المصارف المعنية تداعوا إلى اجتماع في «المركزي» أمس، حيث جرى بحث الموضوع المفاجئ الذي عكس مساراً جديداً من التداعيات الخارجية للأزمة المالية - المصرفية - النقدية في لبنان.
* عدم الوضوح الذي واكب التفاهم الأولي بين لبنان والعراق في شأن تزويد بيروت باحتياجاتها من المشتقات النفطية وتحديداً «بيع كمية من النفط الأسود الفائض عن حاجة المصافي العراقية الى لبنان خلال 2021 وبكميات محدودة سيتم الإعلان عنها لاحقاً، وفق أسعار النشرة العالمية بما يغطي جزءاً من احتياجاته من الوقود لتوليد الكهرباء».
ولم يكن ممكناً أمس الجزم بشروط هذا التفاهم، الذي صُوِّر في بيروت على أنه أبعد شبح العتمة عن «بلاد الأرز»، لجهة التسهيلات بالدفْع التي كان يريدها لبنان ولا تناسب العراق الذي يقف على مشارف أزمة اقتصادية - مالية حادة عبّر عنها اضطرار البنك المركزي لرفع سعر بيع الدولار للبنوك وشركات الصرافة إلى 1460 ديناراً، من 1182 ديناراً للدولار الواحد، بهدف تعويض تراجع الإيرادات النفطية الناجم عن تدهور أسعار النفط.
علماً أن أكثر السيناريوهات تفاؤلاً حيال التفاهم اللبناني - العراقي بالأحرف الأولى أشار الى انه يتضمّن الدفع بالدولار بعد سنة وفق سعر النفط في حينه، من دون أن يُعرف كيف سيؤمّن لبنان ديمومة الحصول على النفط الأسود ما دامت بغداد حصرته بـ«الفائض»، ناهيك عن إمكان توفير شركة خاصة لتكريره ومَن سيتولى تكلفة هذه العملية.