كثُر الكلام عن تقسيم «الحشد الشعبي»، القوة الأساسية التي ساهمت في شكل فاعل مع القوات العراقية الأخرى (الجيش، الشرطة الاتحادية وقوات مكافحة الإرهاب) في هزيمة «داعش» واستعادة الأراضي العراقية.
ويأتي هذا الكلام بعد المؤتمر الذي عقده «حشد العتبات» بداية ديسمبر الجاري وبرزتْ خلاله إلى العلن خلافاتٌ داخل قيادة «الحشد».
إلّا أن مصادر قريبة من المرجعية الدينية في النجف نفت نفياً قاطعاً أن «تكون نية المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني قصْم ظهر الحشد وتشتيته على الرغم من وجود خلافات قوية داخل قيادته».
بدايةً يجب الأخذ في الاعتبار أن «الحشد الشعبي» لا ينتمي إلى المرجعية في النجف الأشرف.
فالسيستاني طلب من الناس في فتوى «الجهاد الكفائي» العام 2014 التطوّع لقتال «داعش» ووقْف زحْفه نحو مدنٍ لم يكن هذا التنظيم احتلّها بعد عقب وصوله إلى مشارف بغداد واحتلاله ثلث العراق.
وحينها تدخّلت إيران ودعمت «الحشد» بالسلاح ودرّبت أعداداً كبيرة منه. وكذلك فعلت المرجعية العليا في النجف التي اشترت السلاح والعتاد ووسائل النقل لأربع فرق هي «فرقة الإمام علي القتالية»، «فرقة العباس القتالية»، «لواء علي الأكبر»، و«لواء أنصار المرجعية».
ولم تكن المرجعية في النجف قيادةً عسكرية تملك مراكز «قيادة وسيطرة» بل إن دعمها المعنوي والديني والمادي (من بيت مال المسلمين) كان جُلّ ما تستطيع تقديمه لمنْع سقوط العراق.
أما إيران فأخذت عبر مستشاريها قيادة العمليات بالتنسيق مع القيادة العراقية، وهو التكتيك الذي سمح بسقوط «داعش» في جرف الصخر أولاً، ثم بدأت المناطق تتهاوى الواحدة تلو الأخرى.
وهذا ما أقنع أميركا بأن عدم تدخلها لوقف «داعش» لم يأتِ بالنتيجة المرجوة، أي بتقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات للأكراد والسُنّة والشيعة.
وقدّمت تالياً الدعم الجوي - الاستخباراتي وسط شكوكٍ من القادة العراقيين حيال أهداف واشنطن، هي التي كانت تعلم بتحركات «داعش» لأعوام طويلة ولم تتدخّل.
واعتبرت طهران أن سقوطَ العراق يعني توجه «داعش» نحو إيران التي تشترك مع العراق بـ 1599 كيلومتراً حدودية.
ولذلك دفعتْ بثقلها لدعم العراق عدا عن وجود مراقد للأئمة الشيعة التي من الطبيعي أن تدافع إيران عنها بكل ما تملك.
ووجدت إيران أن «الحشد» هو الفرصة المناسبة لوجود قوة عقائدية في العراق فرضتْها الظروف التي قضت بمواجهة تنظيم عقائدي مثل «داعش».
فعلى مدى أعوام طويلة منذ 2003، تاريخ الغزو الأميركي للعراق، دأبت القوات الأميركية على تدريب عشرات الآلاف من القوات العراقية التي فرّت أمام «داعش» في أول مواجهةٍ في الموصل وصلاح الدين ونينوى والأنبار.
وتالياً فإن خبرة إيران في دعم قوى عقائدية - مثل «حزب الله» في لبنان وسورية أثبتتْ مردودَها الإيجابي على «الجمهورية الإسلامية» التي وجدت في هذه القوى موالين لها ولقضيتها على عكس الدول التي تنتمي إليها. تماماً مثل «الحرس الثوري»، الذي يشكّل الضمانة التي تمنع إيران من الانزلاق في أحضان أميركا وهيْمنتها على المنطقة بالمباشر أو من خلال حلفائها.
في العراق، هناك قوى في كردستان وبغداد موالية للولايات المتحدة وأخرى موالية لإيران.
وهكذا هو الحال داخل «الحشد» حيث توجد قواتٌ موالية لإيران تؤمن بمشروع واحد عابر للحدود ضدّ السيطرة الأميركية على العراق وقواتٌ أنشأتْها المرجعية موالية لها وللسيستاني الذي لا يُريد لإيران التدخل في الشؤون العراقية.
إلّا أن السيستاني لا يستطيع منْع أكراد العراق من الولاء المطلق لأميركا ولا منْع حلفاء أميركا في بغداد من التناغم مع أهداف واشنطن في العراق والشرق الأوسط.
وما يطلبه مكتب السيد السيستاني من قيادة «الحشد» هو المشاركة في القرار داخل أركان القيادة مثل الإدارة المالية، أو اللوجستية أو قيادة الأمن أو الاستخبارات أو الإعلام.
فجميع أنشطة القيادة الأركانية يُسيطر عليها أبوفدك المحمداوي، رئيس أركان الحشد، الذي عُين بعد اغتيال واشنطن لأبومهدي المهندس مع رفيقه اللواء قاسم سليماني وآخَرين في مطار بغداد.
وقد وجهت المرجعية كتاباً إلى قيادة «الحشد» تطلب فيه المساواة في الحقوق والرواتب وعوائل الشهداء وعدم استبعاد قادة ما يُعرف بـ «حشد المرجعية» من القرار والاستحقاقات.
إلّا أن قيادة المحمداوي لم تتجاوب فخرج الخلافُ إلى العلن حيث تناقلت وسائل الإعلام خطأً أن السيستاني سيشقّ عصا «الحشد الشعبي».
لاشك في أن مؤتمر «حشد العتبات» لم يُنظَّم إلّا بموافقة المرجعية التي بعثت برسالتها العلنية وبقوة، تهديداً وبحدّة لقيادة «الحشد».
فقد طلبت الفرق الأربع التابعة للمرجعية ان تُفصل رواتبها ودعمها اللوجستي ورواتب عوائل الشهداء من قيادة الحشد إلى قيادة وزارة الدفاع.
وهذه الخطوة الإدارية لم تحصل بسبب الأوضاع المالية المتعثّرة وبسبب جائحة «كورونا» ما أخّر هذا الإجراء الذي لابُد منه.
وتعتقد قيادة «الحشد» أن «السيستاني هو الذي دعا لإنشائه، ولكنه أصبح ينتمي اليوم إلى العراق بغرض حماية البلاد من الأخطار الخارجية والداخلية وأهمها «داعش» وأميركا.
فالسيد السيستاني لا يحتاج إلى جيش من«الحشد» يعمل تحت لوائه لأن حماية العتبات المقدسة واجب القوى الأمنية باختلافها، وتالياً فإن إبقاء«داعش» بعيداً عن الإيذاء ومنْع أميركا من الهيمنة على العراق يبقى في سلّم الأولويات، وإيران هي عامِل مُساعِد لذلك.
ومثلما كانت العام 2014 مستعدة لإرسال القوات لوقف«داعش»، فهي اليوم مستعدة لدعم مطلب الشعب العراقي بخروج أميركا من البلاد.
إن المنافسة بين النجف وطهران أمر قديم - جديد.
فالسيستاني لم يعجبه يوماً تَدخُّل إيران في العراق ولم يُخْفِ شعورَه وأهدافَه.
بينما لم تُخْفِ طهران هدفها بمنْع العراق، ومهما كان الثمن، من أن يصبح تحت الهيمنة الأميركية، حتى ولو أغضب ذلك مرجعية النجف.
فالأمن الإقليمي لإيران أولوية، وستبقى على هدفها ما دامت أميركا «استباحت أرض العراق وتقتل مَنْ تشاء» (الحشد، سليماني، المهندس) وتعترف بسماحها لإسرائيل باستهداف القوات العراقية.
لن تستطيع المرجعية في النجف شق عصا «الحشد»، وإذا فعلتْ ذلك فستخرج منه مجاميع تمثّل المرجعية وتتبنى أهدافها مهما كانت.
وتالياً فإن خطوة مماثلة مستبعَدة لن تُغيّر الواقع بأن في العراق قوة إيديولوجية بقية وقوية لن تُغيّر أهدافها الواضحة: هزيمة «داعش» وأميركا.