تتحضّر فنزويلا لانتخاباتٍ برلمانية اليوم، لاختيار 277 نائباً من بين 14400 مرشح من 107 تنظيمات وأحزاب ومستقلين على مقاعد يختارها الشعب.
وأعلنت مصادر أميركية مسؤولة مسبقاً، أنها لن تعترف بالانتخابات لأن نتائجها معروفة وستصبّ الأكثرية لمصلحة حزب الرئيس نيكولاس مادورو.
وتتّهم الولايات المتحدة، زعيم فنزويلا بأنه سيزوّر الانتخابات لمصلحته، هي التي أظهرت للعالم - بحسب خصومها - أن «بيتها من زجاج» بدليل أن الرئيس دونالد ترامب صرّح بأن الانتخابات الأخيرة في بلاده «مزوّرة»، وأنه هو الرابح حتى ولو أجمعت الولايات كلها على فوز جو بايدن.
أما بالنسبة لفنزويلا فإن ترامب أو بايدن هما من دون أي شك وجهان لعملة واحدة، وتالياً فإن كراكاس لا تنتظر رفع العقوبات القصوى التي فرضتْها واشنطن عليها، هي التي تمثل الحديقة الخلفية للولايات المتحدة التي تَعتبر أي تمرّد في أميركا اللاتينية غير مقبول.
والتمرد يُقصد به عدم الولاء والبقاء تحت هيمنة «العم سام».
وما فعلته الإدارة الأميركية منذ أعوام إزاء فنزويلا هو نفسه ما حصل تجاه إيران وسورية ولبنان.
إذ فرضت واشنطن العقوبات على بيع النفط وناقلي النفط، وعلى الدواء وقطع الغيار بشتى أنواعها، وعلى السلع.
وألحقت بعض العقوبات المصرفية بأشخاص ومسؤولين واحتجزت مليارات الدولارات من عائدات النفط.
وقد انضمّت بريطانيا إلى الولايات المتحدة وعملت على حجز الذهب الاحتياطي بعدما كانت صرحت أنها وأميركا ستضعان أموال فنزويلا تحت تصرف رئيس البرلمان خوان غوايدو الذي قرّرت أميركا و50 دولة أخرى - بضغط من واشنطن - إعلانه رئيساً.
وكما هي حال تنظيم «مجاهدين خلق» والأموال التي صرفتها واشنطن في لبنان (10 مليارات دولار) لتقويض «حزب الله» وهزيمته من الداخل، فقد عمدت أميركا إلى إنشاء جيش إلكتروني ودفْع المعارضين للنظام الفنزويلي للمطالبة - كما فعل غوايدو - بتدخل عسكري أميركي، وإلا فإنها الحرب الأهلية.
وتُتهم فنزويلا بأنها قلعة الفساد وكأن أميركا مهتمّة بمعاقبة الفاسدين... فترامب سارع إلى توقيع مرسوم إعفاء عن عائلته ليتجنب الملاحقة القانونية. ولكن هذا لا يعني أن فنزويلا بعيدة عن الفساد وانهيار العملة والبيروقراطية القاتلة.
غير أن هذا الواقع له أسبابه، إذ عمدت أميركا لقرون عدة إلى السيطرة على أميركا اللاتينية وأخرجت من بوليفيا إيفو موراليس، الرئيس المنتخَب لأنه خالَفَها، ليعود من جديد بعدما فرض الشعب حزب موراليس وتالياً أعاده من المنفى.
ومن مصلحة واشنطن، وضع اليد على أميركا اللاتينية لأسباب عدة، أهمها غنى مواردها المتنوعة، بدءاً من الطاقة إلى الغذاء والموز حيث كانت الشركات العملاقة الأميركية هي المسيطرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن شعب فنزويلا فطري بأكثريته، إلا أنه يحبّ الحرية والمرح والرقص كلما أراد التعبير عما في داخله.
وهنا ينطبق مثل «الطير يرقص مذبوحاً من الألم».
فالحكومة الفنزويلية وبسياسة نادرة عالمياً، بنت 3 ملايين مسكن تقدّمها إلى سكانها حيث يتمتع هؤلاء بالطبابة والتعلم المجاني لجميع السكان من دون تمييز.
إلا أن العقوبات سبّبت انهيار العملة المحلية حيث بلغ سعر صرف الدولار الواحد مليون بوليفار (اسم العملة الوطنية)، بينما يتقاضى الموظفون المعاش الأدنى الذي يوازي 4 ملايين، أي ما يعادل أربعة دولارات شهرياً.
والحكومة في كراكاس - مثل دول شرق أوسطية - تدعم سعر الغذاء والنفط (وهو أرخص سعر في العالم إذ إن سعر صفيحة البنزين يوازي نحو 0.05 دولار للعشرين ليتراً).
ولكنّ هناك سوقاً موازية تبيع بأسعار خيالية إذا أراد المواطن تجنّب الانتظار لساعات على محطات الوقود.
ويُخيّل لمَن كتب وغطى أخبار الشرق الأوسط لعقود عدة ومشكلاته وحروبه وخلافاته الداخلية والخارجية وخَبِرَ سكانه وثقافتهم أن سكان فنزويلا ومسؤوليها سذج بسطاء إلى درجة الغباء السياسي.
إلا أن الحقيقة تختلف كلياً. فهو شعب مؤمن بقضيته، حيث ما زال سيمون بوليفار - مكتشف العالم اللاتيني ومحقق استقلال هذه الشعوب في القرنين الثامن والتاسع عشر - وهوغو شافيز الذي توفي ليتسلم انتخابياً مادورو مكانه، حيّين على كل شفة ولسان وفي كل زاوية في فنزويلا.
وفي كل مناسبة أو كل محادثة مع أي فنزويلي، مسؤول أو غير مسؤول، يُذكر اسم شافيز وبوليفار لأنهما أعطيا هذا الشعب كرامته واستقلاله وسلخا عنه سيف الهيمنة.
وهذا الشعب لديه عقيدة راسخة يعبّر عنها بصدق عميق وشغف لا نراه اليوم في أي مكان آخَر في العالم.
مشكلة فنزويلا، في عيون مَن يزورها أنها لم تتعلم الشيْطنة، ولذلك طردت غوايدو وقبلت ألا يحمل السلاح أهلها لأنها كانت واثقة أن إرادة الشعب، رغم الفقر، تتمسك بالانتخابات وتريد التعبير عن عدم رغبتها بالهيمنة الأميركية حتى ولو حضر 35 إلى 40 في المئة من أصل الـ20 مليون و700 ألف ناخب من أصل نحو 30 مليون ساكن.
نعم إن سكان فنزويلا أكثرهم من الشبان الذين انتخبوا منذ الاستقلال 25 مرة لمجلس نواب يمثلهم. «نحن لا نشكل خطراً على السلام بل نشكل خطراً على مَن يريد الهيمنة علينا»، قالتها نائبة رئيس فنزويلا دلسي رودريغيز.
ها هي الحملة على فنزويلا قد بدأت في الصحف الدولية قولاً إن «حزب الله اللبناني يرسل فرقاً للقتال في فنزويلا».
القتال ضدّ من؟ وعلى أي جبهة؟ ولماذا تحتاج فنزويلا لمجموعة من المقاتلين الذين ذهبوا إلى العراق وسورية واليمن بسبب أهداف معينة شرق أوسطية وإلى دول لا استقرار فيها وكانت شبه محتلة؟ هذه هي الطريق لشيْطنة فنزويلا التي لم تركع، خصوصاً أن غوايدو - أميركا قرروا مقاطعة الانتخابات ليتسنى لهم الطعن بها وبنتائجها.
وغوايدو يمثل جزءاً كبيراً من المعارضة، إلا أن هناك أحزاباً معارضة لم تتبعه وقررت المشاركة بالانتخابات.
وها هي فنزويلا دعت ووصل إليها نواب برلمانيون من جميع أميركا اللاتينية ومن إيطاليا وايرلندا وبلجيكا وفرنسا ودول أخرى تحدّوا قرار دولهم والبرلمان الاوروبي لأنهم لن يعترفوا بالانتخابات - كما في سورية - لمعرفتهم بنتائجها المسبقة.
وينتقد هؤلاء النواب الأوروبيون حكوماتهم التي «تعمل على التلاعب بالديموقراطية وخرق الأعراف الانتخابية الذي لا يمكن أن يمر على شعوب أوروبا وشعب فنزويلا»، كما قال مايك والسن النائب الأوروبي عن ايرلندا الموجود مع بعض زملائه بصفتهم الشخصية في كراكاس للإشراف على الانتخابات النيابية.
لقد أرادت أميركا قلب النظام الديموقراطي العام 2015 وحاولت إسقاط النظام وخطف مادورو أو قتله عبر طائرة مسيرة دون الوصول إلى غايتها.
إنها الدولة الأغنى بالنفط في العالم من خلال احتياطها الهائل، ولكنها تبحث عن سبل العيش لأن نفطها الثقيل لا يُستخدم في مصافيها المتوقفة والتي لا تمتلك قطع غيار لها. ولكنها بقيت الدولة الأغنى نفطياً واختارت كرامتها والصبر على ما أصابها علّ الفرج قريب.