من غير المتوقّع أن يُكتبَ لمبادرةِ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون النجاح في الأسابيع المقبلة. فنابليون بونابرت الجديد لن يستطيع إيجاد مرقد عنزة في جبل لبنان ولا توحيد اللبنانيين ولا حتى الأوروبيين. بل لديه أصدقاء لا يمانعون الحفاظ على علاقة طيبة مع فرنسا ما دامت تستطيع أن تقدّم حلولاً لحل الأزمة اللبنانية المستعصية.
أما إلقاء اللوم على الآخَرين وعدم الاعتراف بخطئه وبعدم إدراكه لزواريب السياسة اللبنانية فهذا دليل على أنه غير مستعدّ لأخذ العِبر من الأخطاء ولا يملك الحلول الفعلية.
ولكن لماذا لن تنجح باريس بمبادرتها في لبنان؟ الأسباب كبيرة.
من دون شك أن ماكرون ملمّ أكثر من أي رئيس غربي بتفاصيل السياسة اللبنانية. إلا أن هذا الإلمام غير كافٍ لمعرفة وتقدير ردات الفعل عند السياسيين ومخاوفهم وانعدام الثقة فيما بينهم.
عندما غاص ماكرون في تفاصيل الوضع المالي وكيف وصل لبنان إلى حجم الديون ومسبباتها (الفساد وسرقة الأموال العامة وعدم وجود خطة لبناء البنية التحتية التي ذهبت أموالُها إلى جيوب السياسيين)، استطاع في أقلّ من دقيقتين شرح عقود من الهنْدسات المالية التي فشلت بسبب الفساد وعدم بناء مستقبل مالي للبنان الذي لا يُنْتِج ما يصرفه. أما عندما دخل في زواريب السياسة فقد ظهر ضعيفاً وغير مُمْسِك بخريطة طريق تعطي ثمارها وتأتي أكلها. فقد اجتمع ابتداءً مع السياسيين وطلب مشاركتهم في الحكومة العتيدة، ومن ثم عاد إلى لبنان ليطلبَ حكومة توافقية.
وفي كلتا الحالتين، لم يوضح ما يريد وغاب عنه أنه يتعامل مع سياسيين يفسرون ما يشاؤون وكلٌّ يغنّي على ليلاه، إلى أن خَرَجَ في مؤتمره الصحافي ليوضح بعض النقاط ويؤكد تخبطه. فقد أوضح ماكرون أن رئيس الوزراء السابق سعد الحريري أخطأ ابتداءً وصحّح خطأه لاحقاً، وبذلك اعترف، بحسب بعض الأوساط، بأن الحريري كان يحرّك الرئيس المكلف مصطفى أديب. فكيف يطلب ماكرون، وفق هؤلاء، من سياسيي لبنان غير المتّفقين ومعدومي الثقة، فيما بينهم أن يقبلوا بأن يصبح نادي رؤساء الحكومة السابقين هم مَن يديرون الرئيس أديب، وهم متحزّبون ولديهم أجندة تُخاصِم طرفاً سياسياً آخَر تقوده الأكثرية (65 نائباً) الممثّلة بالرئيس ميشال عون وحزبه «التيار الوطني الحر» وحركة «أمل» و«حزب الله» وآخَرين؟ ومن ثم يقول الرئيس ماكرون إنه يتعيّن على السياسيين الاختيار بين «السيناريو الأسوأ» وهذا يعني الحرب الأهلية بحسب قوله، أو الديموقراطية.
ولم يوضح الرئيس الفرنسي، بحسب هذه الأوساط، كيف يكون مفهوم الديموقراطية في هذه الحالة التي، إذا ما طُبّقت، يكون الحكم للأكثرية النيابية وليس لنادي الرؤساء السابقين الذين يمثلون أقل من 25 نائباً؟ وفي رأي دوائر في الأكثرية البرلمانية أن ماكرون بدأ بتهديم ما قام به حين اتّهم «حزب الله» بأنه يقف خلف عرقلة ولادة حكومة أديب التي تبنّاها الرئيس الفرنسي، الذي لم يقُل في أي وقت خلال زيارتيه للبنان أنه يتعيّن على الأقلية النيابية تسمية الوزراء واختيارهم، ورسْم خريطة الطريق لرئيس الحكومة العتيدة، ولو فعل ذلك لرفض غالبية المجتمعين. ولم يقُل أبداً - كما كشف النائب السابق وليد جنبلاط - أنه يريد حكومة لا يتمثّل فيها ولا يسمي وزراءها القادة السياسيون الذين يحكمون مجلس النواب.
ولو فعل ذلك لكان يتعيّن على أديب ألا يجتمع ولا يأخذ بنصائح نادي الرؤساء (سعد الحريري، نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وتمام سلام). بل كان عليه اختيار مَن يريد بعيداً عن الطائفية والمحاصصة أو الديموقراطية. وفي اعتقاد الذين واكبوا المخاض السياسي - الحكومي أن عقدة وزارة المال أنقذتْ رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي لم يكن حان وقته بعد للمطالبة بوزرائه لأن أديب لم يقدّم له يوماً لائحة بأسماء وزرائه.
لقد أعطى الرئيس الفرنسي فرصة ثانية لمبادرته لمدة 4 - 6 أسابيع أخرى، أي إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، ليتبيّن الخيط الأبيض من الأسود. إلا أنه أخطأ مجدداً لأن تسمية رئيس الوزراء الجديد يجب أن تحظى برضى المسلمين السنّة، ومن هنا تبدأ المشكلة لأن القادة السنّة لهم أحزابهم وأهدافهم وخصومهم وأجنداتهم مثل كل حزب لبناني. بالإضافة إلى ذلك، فإن نتائج الانتخابات الأميركية لن تصدر مباشرة بل ربما تحتاج لأسابيع طويلة وقد لا تكون محسومة المصير إذا لم يتم إعادة انتخاب دونالد ترامب بحسب ما قاله توماس فريدمان، الذي أنذر بحرب أهلية أميركية في حال لم يعُد ترامب إلى كرسي الرئاسة.
والواضح من مجريات التطورات أن أميركا لم تعطِ فرنسا الضوء الأخضر ولم تترك الساحة لماكرون. فبعد كل زيارة للرئيس الفرنسي كانت تتبعها زيارة لموفد أميركي. وقد أضافت إلى ذلك انتقاداً لاذعاً لماكرون من وزير الخارجية مايك بومبيو. وما زاد الطين بلة كان العقوبات الأميركية التي لا يوافق عليها ماكرون ولا يستطيع أن يوقفها ولا يسيطر على توقيتها. وهذه العقوبات بالذات هي التي أعطت الإشارة لـ«الثنائي الشيعي» (أمل وحزب الله) بأن فرنسا لا تسيطر على الأمور وليس لديها سوى مساحة ضيّقة على قدر دورها الدولي المحدود وأن أميركا لديها أهدافها التي لا تتقاطع بالضرورة مع أوروبا وفرنسا بالذات.
ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى أن لبنان يحتاج لمليارات كثيرة، والأهمّ لثقة لم تعد موجودة حيال المصارف أو السياسيين غير المستعدين لترك الساحة، غير أن الأكثر إثارة هو أن الرئيس الفرنسي نفسه حذّر من التدخل الخارجي المتزايد بينما هو يمثل دولة خارجية تسمح لنفسها بالتدخل وإملاء الشروط وتوزيع الدروس، وهو لا يملك التصور الحقيقي الذي يبدأ بحسب البعض بالدستور اللبناني وبوضع حدّ للطائفية السياسية.
ووفق هذه الخلاصة فإن أزمةَ لبنان سبّبتْها عقود من الفساد. وتالياً فإن 6 أسابيع لن تشفي المرض العضال الذي أصاب لبنان، ولا جدوى من الاستعجال بل هناك ضرورة لبناء أسس واضحة وسليمة يبنى عليها لاستقرار أكثر ثباتاً في هذه الدولة الصغيرة ولكن التي تهمّ المجموعة الدولية كلها. وعند انتهاء المدة التي أعطاها ماكرون، فإنه لن يستسلم لأن لدى فرنسا مصالح في لبنان ومرفئه وطاقته ومنافسة تتعرّض لها باريس من دول عدة يهمّها الدخول إلى الأسواق اللبنانية المتعطشة. ولكن ثمة مَن يرى أنه إذا بقي ماكرون على «إعطاء الدروس» فإن مبادرتَه محكومة بالفشل إذا لم يغيّرها ويحاكي المشاكل بعمقها.