... كأنها «جريمةٌ ضد الإنسانية» تُرتكب عن سابق تَرَصُّدٍ وتصميم. مَسْرَحُها البحر المتوسط، الذي يكاد أن يتحوّل إلى «القبر الكبير»، ضحاياها فلذاتُ أكباد وأناسٌ طيّبون، بسطاء، يائسون غَدَرَ بهم الفقرُ وسُدَّتْ السبلُ في وجْههم وعزّتْ عليهم لقمةُ العيش، أما المُرْتَكِبون فأشبه بـ «مافيا» من تجّار الدم وأعوانهم من رجالِ السلطةِ في بلادٍ يَنْخرها الفسادُ وتنهارُ فيها القِيَمُ وتَأسُرُها مشاريع انتحارية تَلاشَتْ معها الدولة وتَرَهَّلَتْ مؤسساتُها.
«قواربُ الموت»، آخِرُ مَواسمِ وَصْمَةِ العارِ التي تَنْهَشُ واقعَ لبنان وصورةَ الوطنِ الذي فاخَرَ طويلاً بأمجاد تتناثر كالرماد مع الانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت وعلى شواطئ الشمال التي تحوّلت معابرَ هروبٍ إلى المجهول عبر بحرٍ تعوّد ابتلاع الأحلام المكسورة والأجساد الطرية والعيون الناقمة والبطون الخاوية... بحرٌ كأنه الوطن البديل للسوريين الفارّين من البطش والفلسطينيين الهائمين على وجه الكوكب والليبيين المُطارَدين بلعبة النار والنفط وأخيراً اللبنانيين الذين مَلّوا أدوار «الحَطَبِ» في جهنّم السياسة وأربابها.
رحلات الموت الهجرةُ غير الشرعية انطلاقاً من شمال لبنان ليست أمراً طارئاً، فهي «تَفَشَّتْ» مع النزوح السوري الكثيف إلى المجتمعات اللبنانية المُضيفة التي يَسْتَوْطِنُها الفقرُ المُدْقِعُ في معظمها، وبدءِ موجاتٍ من ركوبٍ البحر على أيدي «مُهَرِّبين» غالباً ما تواطؤوا مع سلطاتٍ تدير ظَهْرَها لانفلات الشاطئ إفساحاً أمام إقلاعِ رحلاتِ الموت. نادراً ما كان بين الفارين من مآسيهم إلى السَراب لبنانيون، فهم تعوّدوا «تدبير أمرهم» رغم مصاعب العيش والبؤس والشقاء في بلادٍ لم ترحمها الأزماتُ ويَقْتَادُها حكّامُها إلى بئس المصير، غير أن الواقع «الجهنمي» الذي لم يتنكّر له حتى رئيس الجمهورية ميشال عون دَفَعَ بعشرات اللبنانيين إلى تَجَرُّعِ البحر ومجازفاته.
وعلى عكس الطفل السوري إيلان الكردي الذي «انتقم» له العالم بجعْل حكاية موته على كل شفة ولسان، فإن الطفلين سفيان ومحمد (بين عامين و3 أعوام) اللذين حُفر قبرُهما من بحر وشمس وملح، قبل أن يعيدهما المتوسط إلى الرمل العاري والتراب المُرّ في بلادهما، مُنيا بـ «موتٍ رخيص» لم تهتزّ معه ضمائر أهل السلطة.
عبّارة الموت تصارع القبر الأزرق صُدم اللبنانيون ومعهم العالم أجمع بأخبار بدأت تظهر على شاشاتهم عن مفقودين في البحر لا يُعرف مصيرهم خرجوا في رحلةِ هجرةٍ نحو قبرص. وظهرتْ على الشاشات أمهات يبكين ويناشدن الدولة ومسؤوليها البحث عن أبنائهن التائهين في البحر.
لكن هول المأساة وفظاعة الفاجعة لم يتكشف بكل قُبْحِه وسودويته إلا بعدما بدأت الجثثُ تَظْهر تباعاً على الشاطئ اللبناني وعودة مَن أفْلت من «رحلة الموت» إلى لبنان إثر رصد قوة «اليونيفيل» البحرية لها ونقْلها الناجين التائهين في الجحيم الأزرق القاتل إلى البرّ بعد ثمانية أيام.
رحلة الأحلام أخبار أقسى من أن يتقبّلها عقل وقصصٌ تحفر عميقاً في الوجدان إلى حدّ الوجع، لكنه وجعٌ لا يُقارَن بما عاشه هؤلاء المهاجرون على ما بات يعرف بـ«عبارة الموت».
46 شخصاً جَمَعوا ما تَيَسّر معهم من أموال، واشتروا بها حلماً بمستقبل أفضل، دفعوا 360 مليون ليرة لبنانية صاغرين ثمناً لهروبٍ مستحَق من جحيمٍ يعيشونه يومياً وسط الفقر والعوز.
سُدّت الطرق في وجوههم فلم يجدوا إلا البحر يفتح بابه أمامهم. لم يدركوا أن طريق البحر الذي رَسَموا له ألف مَخْرَج ومَخْرَج يتهيأ لابتلاعهم. أصْغوا الى صوتِ السماسرة يَعِدهم بعالَم الأمان خلف البحار، صدّقوا، ابتهجوا وبدؤوا برسم الخطط لغدٍ ورديّ مرصوف بطريق أزرق.
... لبنانيون في غالبيتهم، وسوريون وآسيويون. من أحزمة البؤس جاؤوا، حَمَلوا معهم ما يكفيهم مسافة الطريق - الذي سمعوا أنه لا يتعدى اثنتي عشرة ساعة - من ماء وطعام واحتياجات. ووقفوا ينتظرون متأرْجحين بين الخوف والأمل انطلاقة «رحلة الأحلام». جاءهم مَن يقول لهم «انقلوا كل متاعكم إلى مرْكب آخَر واتركوا هواتفكم حتى يخفّ الحمل عن المركب ولا يشك أحد بأنكم مُهاجِرون غير شرعيين.
تجوّلوا في البحر قليلاً وسنوافيكم بالمركب الآخر ونحمل إليكم طعامكم وشرابكم وحليب أطفالكم ونواكبكم بعد نقطة الالتقاء نحو المياه الإقليمية لتسيروا بعدها وفق الخريطة إلى بر الأمان». لم يتركوا لهم شيئاً إلا بضعة غالونات من المازوت تكفيهم لبلوغ ما كان يُفترض أن يكون نقطة التقاء. قائد المركب واحد منهم، غير متمرّس بالمسارات البحرية لكن حلمه أكبر منه، ربما شُلّ حُسْن تفكيره فارتضى المخاطَرة والسير بركابه نحو الأمل المنشود.
في البحر رمت طفلها «سيلفي» أخير حملت عبيدة وهي واحدة من الركاب طفْلها سفيان محمد وضمّتْه إلى صدرها. كان يضحك فرَحاً بنزهة بحرية مع أمه وأبيه، يلعب كطفل لا يتعدى سنتين ونصف من العمر ومعه على المركب طفلٌ آخَر ربما أصغر منه بقليل يرافق أمه وأبيه وشقيقاته.
على المركب شبانٌ مستعدّون للمغامرة، يعرفون بعضهم بعضاً من أحياء الفقر، أو غرباء جعلهم البؤس أخوةً ورفاقاً، وبعض العائلات الهاربة من جحيم العوز.
الأصدقاء أخذوا سيلفي مع بعضهم لتكون ذكرى لحياة يتركونها خلفهم وفاتحة خير لحياة تترقب قدومهم. انطلقتْ «الفلوكة»، وربما كثر تلوا الصلوات والأدعية وتضرّعوا الى الله تعالى ليبارك خطواتهم ويصلوا الى وُجْهتهم بأمان.
شقّ المركبُ غمار البحر ليل الإثنين وراح يتقدّم نحو نقطة اللقاء. هل سارَ في الاتجاه المفروض، هل دارَ في مكانه؟ الجواب مُبْهَمٌ، لكن الحقيقة الواضحة أنه لم يلتقِ بالمركب الموعود المحمّل بالمؤونة والأغراض. ضاع قائد الفلوكة وارتبك مَن معه... هل يكمل طريقه في البحر فيلتقي المركب الآخَر أم ينتظر مكانه معرّضاً نفسه لخطر الانكشاف؟ أكمل سيْره حتى اليوم الثاني واستنفد ما كان معهم من غالونات المازوت إلا واحداً. الشمس حارِقةٌ والحرارة كاويةٌ، والأجساد الصغيرة بدأ ينْهشها الجوع والعطش ويلفح وجوهها الحرّ.
صباح اليوم الثالث كان الجوع قد أخذ من سفيان الصغير مأخَذاً، ومنذ الليل لاحظتْ الأم الشابة أنه ليس بخير، أرادتْ إطعامه، حضّرت له من ماء البحر زجاجةَ حليبٍ وأطعمته إياها، لم تشأ أن تترك طفلها جائعاً، لكن مياه البحر المالحة لم تسدّ جوع الصغير بل على العكس أنهكت جسده وربّما سمّمته، بسرعة تبدّلت حاله وذوى كشعلة تنطفئ، أصابه إسهال حاد واستفراغ، أحسّ أبوه بأنه يموت لكن الأم ضمّتْه إلى صدرها فسمعت خريره.
لم تكن الأم أفضل حالاً من فلذة كبدها، مُتْعَبَةً خائرةَ القوى كانت، أنْهكها دوارُ البحر، لكنها أبقتْ سفيان على صدرها إلى أن جاء أحدهم ونزَعه من بين ذراعيْها بعدما تأكد له أنه ميت. كفّنوه بشالٍ أسود كانت أمه تضعه حول عنقها وربطوه بحبلٍ على طرف المركب لكن الشمس الحارقة ومياه البحر نالوا منه من جديد فتورم وانتفخ وفاحت منه رائحة الموت.
في اليوم التالي أصاب زينب ما أصاب عبيدة فتوفي طفلها محمد نظير محمد الذي لم يحتمل الظروف القاسية. والده الذي كان يساعد في قيادة المركب، كفّنه ببنطاله الأسود ورَبَطَه بحزام ثم جَمَعَه إلى جانب سفيان بحبل واحد. تائهين ما زالوا في البحر وإلى جانبهم ملاكان صغيران عائمان على مياه الموت. أرادوا العودة لكن المازوت نَفَد منهم صرخت بهم زينب بشكل هستيري: أكملوا الطريق فقدتُ ابني ولن يكون موته عبثاً أكملوا لننقذ ما تبقى من عائلتي.
البحث عن الحلم بغد أفضل حتى بين براثن الموت عبير الصوفي أم الشابة عبيدة وجَدّة سفيان الصغير التي التقتْها «الراي» في منطقة القبة في طرابلس، حيث تعيش مع عائلتها في مبنى قديم مطلّ على البحر كان «قلبها قد أحسها» بمكروهٍ ما قد يحصل، توسّلتْ صهرَها ألا يصطحب زوجته وطفله معه في هذه الرحلة غير المضمونة المسار والنتائج، رجته أن يتركهما عندها لتهتمّ بهما ولا سيما أن عبيدة حامل في الشهر السادس وقد لا تحتمل البحر، لكنه أصر، فقد قيل له «إذا كان برفقتك زوجة وطفل فهم يسهلون أمورك هناك في قبرص ويفتحون أمامك مجال الهجرة أسرع»، أراد أن يؤمن لعائلته الصغيرة وطفله المنتظَر حياةً أفضل هو الذي يقبع في القبة بلا عمل وبلا منزل يأويه.
خافت الجدّة والجدّ، قدّرا عواقب الرحلة بقلب أبوين راشدين، فأسرعا ما أن غادر المركب إلى التبليغ عنه للجهات الأمنية حتى يتم البحث عنه، «اطمأنت نفوسنا» يقول الجد بحسرة أن النجدة في طريقها إليهم «لكننا لم ندرك حينها أن أحداً لن يحرّك ساكناً للبحث عنهم».
توالت الأيام والمركب ضائع لا أحد يعرف عنه شيئاً، بعض الأهالي كان يتلقى اتصالات طمأنة من المهرّب المسؤول، يخبرهم فيها أنهم وصلوا إلى قبرص وأن السلطات هناك تحقق معهم وسيتصلون بالأهل قريباً.
لكن هذه الاتصالات تقول الجدة عبير «لم تُطَمْئني، كان قلبي يغلي على الطفل فهو ما زال يرضع من حليبي مع طفلي الصغير، أطعمهما معاً وألاعبهما معاً في بيتي، هو الطفل الممتلئ حركة وحياة والدائم الضحكة الذي لا يحب الابتعاد ولو للحظات عن حضن أمه. خرجتُ إلى الإعلام لأخبر أن ابنتي الحامل وابنها الطفل وزوجها مفقودان في البحر، وأناشد المسؤولين البحث عنهم»، حينها فقط بدأ الأمر يتفاعل ويتحول قضية لكن هول المصيبة لم يكن قد عُرف بعد.
في زاوية من زوايا الصالون تجلس عبيدة، أم ثكلى لم تتخطّ العشرين من عمرها، تنظر إلينا بنظرات تتأرجح بين الكآبة والصدمة والفراغ. نظراتٌ كأنها ليست لها. ما زالت تتهاوى في مشيتها كأنها في البحر، لم تَسْتَعِدْ توازنها بعد، وبالكاد التأمت بشرتها من حروق الشمس التي أصابتها. نسألها بخجل، بدمعةٍ وصوت هامس عما حدث معها حتى لا ننكأ جراحَها من جديد.
تخبرنا أنها لم تكن واعية في المركب «كنتُ شبه غائبة عن الوعي، وكان أحد أصدقاء زوجي يضع حول فمي القليل من المربى الذي أبقتْه إحداهن خلسة في حقيبة يدها ويرشون وجهي بماء البحر». شعرتْ عبيدة بأن سفيان نائم على صدرها وأحست بأن أحدهم نزعه عن صدرها وأخذه، أخبرها زوجها أنه رَحَلَ ونزِل إلى الماء ليطلب من ابنه السماح.
«الشباب صلّوا عليه وربطوه بحبل وكفنوه بشالي الأسود، أخذ زوجي يبكي ويردد ليتك أصغيتِ لتوسلات أمك وبقيتِ معها. ربطوه مع الولد الثاني إلى المركب لكن حين فاحت رائحتهما قام أحدهم بقطع الحبل، رأيتُ ابني يبتعد عن عيني لكنني لم أكن قادرة على الوقوف، غبتُ عن الوعي وحينها رأيتُ الفلوكة كلها ملأى بالطعام وشراب الجلاب فارتويتُ من منظرها ولم أعد أعرف أين أنا»... «إنه ابنها» تقول الجدة «أرسل لها من الجنة رؤيا»...
«مَن المسؤول»؟ يصرخ الجَدّ «مَن أرسلهم إلى حتفهم بلا أي رادع، كانوا يتوقعون لهم الموت حتى لا يبقى منهم أثَر كي يستولوا على المال والأغراض. مجرمون هم سفّاكون وعلى الدولة أن تقتصّ منهم لأنهم معروفون بالاسم... لو عرفتُ أنهم تائهون لأخذتُ مركباً بنفسي وبحثتُ عنهم» يقول بحسرة.
بحثاً عن النجدة حتى آخر رمق على المركب رمى مُهاجِر بنغلادشي نفسه في الماء ليموت بعدما تناول كميةً من الحر حَمَلَها معه وأذابها بماء البحر ليكسر جوعه فإذا بها تتحول بركاناً مشتعلاً في جوْفه دَفَعَهُ ليرمي نفسه في البحر بحثاً عن موت أقل إيلاماً...
استمرّت رحلة الموت، شبابُ المركبِ تَشَتَّتَ فكْرهم، بعضهم كان يسعى جاهداً لمساعدة الضعفاء على السطح وبعضهم فكّر بحلٍّ آخَر، وهو القفز في المياه و السباحة نحو المجهول عله يجد سفينة مارة يمكن أن تُنْقذهم. محمد خلدون محمد الذي كان يحاول مساعدة الجميع، الشاب الخلوق الذي باعتْ إحدى شقيقاته أساورها لتساعده في تأمين كلفة الرحلة، لم يعد يطيق البقاء على المركب، لفّ على ذراعيه غالونات بلاستيك فارغة وقفز في الماء سعياً وراء طلب النجدة، وسبح في البحر حتى غاب عن الأنظار وما زال غائباً.
قصدْنا عائلته في منطقة القبة ودخلْنا حياً من أفقر الأحياء، ومبنى يكاد يتداعى. عرفنا عندها ما الذي دفع هذا الشاب الوحيد على سبع شقيقات للهرب من واقعه والبحث عن بصيص أملٍ بعيد. الدمعة في عين أمه والحَرْقة في قلب أبيه، والغضب الممزوج بالألم والخوف على أفواه شقيقاته. لا يزال محمد مفقوداً لا يعرفون عن مصيره شيئاً، يتمسكون بفيديو مشبوه غير معروف المصدر لعملية إنقاذٍ لسابحين في البحر من سفينة مغربية.
إحدى الشقيقات تدرك جيداً أنه فيديو غير موثوق «قد يكون قديماً أو في بلاد أخرى»، لكنهم يتمسكون بخيوط الأمل. رغم خوفهم وحزنهم على سفره، هو الشاب الأوحد في العائلة، لم يقفوا في وجهه فكلهم يدركون ظروفه الصعبة وأرادوا له مستقبلاً أفضل فساعدوه في جمع الكلفة: «إما أموت أو أعيش قالها لهم، لن أعود من هناك إلا ميتاً حتى ولو رميتُ نفسي بالبحر».
... حين مرّ يومان على انطلاق الرحلة ولم يسمعوا عن ابنهم شيئاً اتصلوا بالمهرّب الذي أرسل لهم رسائل صوتية تُطَمْئنهم وتُرافِق الرحلة يوماً بيوم، ففرح الأب وطلب من الوالدة أن تدعو له. لكن في الواقع لا الأم ولا الأب اطمأنا، فهما لم يسمعا صوت ابنهما ولا رأيا صورةً له أو تلقّا منه اتصالاً. لكن غياب الضمير عند المهرّب برهان القطريب وصل به الى حد إرسال صورة لمركبٍ راسٍ على الشاطئ يخبرهما فيها أنه المركب الذي استقلّه ابنهما ويهنّئهما بوصوله بالسلامة.
والد محمد بالكاد يستطيع احتواء غضبه، ناقِمٌ هو على القطريب «تاجِر الدم» وعلى صهره أحمد صفوان «اللذين غرّرا بولدي فوثق بهما وباعا دمه وحياته وأحلامه. وقد دعوتُ مع عائلتي عليهما شخصياً علهما ينالان جزاءهما».
حتى اليوم لا يزال محمد مفقوداً في البحر رغم عودة المركب الذي استطاع أحد ركّابه السباحة إلى حيث التقى بسفينة لـ«اليونيفيل»، انتشلتْه من الماء وذهبتْ تبحث عن المركب التائه حتى وجدتْه وحملت كل ركابه أو مَن تبقى منهم بعد موت مَن مات ورمي آخرين لأنفسهم في الماء إلى بيروت.
أهل محمد ناشدوا الجميع متابعة البحث عن ابنهم وتلقّوا من مكتب الرئيس سعد الحريري وعداً بأن البحث مستمر وصولاً إلى اليونان والدول المجاورة. ولكن بعد مضي أكثر من أسبوعين بات الأمل ضئيلاً لكنه لم يخبُ بعد، ففي عيون الجميع خشية مجبولة بالانتظار، وحدها الأخبار الطيبة التي تروى عن شقيقهم تخفف من حرقتها. فالكل يحكي عن هذا الشاب الخلوق وكيف ينزع اللقمة من فمه ليطعمها للمحتاجين رغم حاجته إليها. وركاب عبارة الموت يخبرون عن روحه الطيبة وكيف ساعدهم واحداً واحداً ورمى بنفسه في المجهول الأزرق بعدما كفن ابن عمه الطفل وصلى عليه ليبحث لهم عن نجدة.
أخبارٌ تبلسم شيئاً من جراح الأهل لكنها لا تُطفئ لهيبَ قلب أمه وشوقها لضمّ وحيدها إلى قلبها من جديد، ولا تُهْمِدُ غضبَ أبيه واستشراسه «لمعاقبة كل مَن سبب الكارثة» ولا لوعة شقيقاته على شابٍ «كان فرحة البيت وفخره». عبيدة التي لم تعد تخرج إلى شرفة منزل أهلها وتنظر إلى البحر خوفاً من أن ترى جثة ابنها فيه، أعادَه البحر إليها يوم الأربعاء على شاطئ عمشيت، بعدما كان لفظ قبلها محمد، وكأنهما يقولان لأهلهما نعرف أننا تُركنا في الأزرق الكبير قسراً ولكن لن نترككم، وها نحن عدنا إليكم، إلى سريرينا... الباردين.
والدة محمد تنتظر مع شقيقاته خبراً يثلج صدورهن العابقة بالخوف والألم، أما بلال السباح المنقذ الذي أسعفه الحظ بالبقاء حياً وجلْب النجدة فهو يقسم أنه لو أتيحت له الفرصة من جديد فسيهاجر هرباً من واقع كان البحر على قسوته أرحم منه. فمَن يعيد إلى هؤلاء وغيرهم الكثيرين الأملَ بغدٍ أفضل؟ أي يد تُبَلْسِمُ جراحهم وتقتصّ ممن سبّب موت أبنائهم وقضى على غدهم وأحلامهم؟