| الرباط - من رضا الأعرجي |
تتميز تجربة الكاتب المغربي الدكتور عبد الغني أبو العزم بجمعها بين الأصالة والمعاصرة على سطح واحد، فاهتمامه بصناعة المعاجم وطرق معالجة اللغة العربية آليا، وكونه صاحب «معجم الغني» الالكتروني أحد أهم المعاجم الأساسية، لم تمنعه من كتابة الرواية ومزاولة الترجمة، خصوصاً ما يتعلق منها في شؤون المغرب الثقافية والسياسية، أومن تحقيقاته في التراث العربي.
حصل الدكتور أبو العزم (1941) على الماجستير من جامعة السربون في الفكر الاسلامي، ودكتوراه الدولة من جامعة الحسن الثاني في المعجميات، وسبق أن نال جائزة المغرب للكتاب في صنف الابداع لعام 1996. وكان تولى مسؤولية «وحدة البحث والتكوين في علوم اللغة العربية والمعجميات»، كما رأس «مركز التواصل والبحث الثقافي» و«الجمعية المغربية للدراسات المعجمية»، ويرأسها حالياً.
ومن بين كتبه المنشورة «المنهج والنص: مدخل الى التحليل الاحصائي اللغوي للنصوص الأدبية»، و«ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب» (ترجمة)، و«المعجم المدرسي أسسه ومناهجه»، و«المعجم الصغير»، و«معجم تصريف الأفعال»، و«أعز ما يطلب» للمهدي بن تومرت (تحقيق)، و«الثقافة والمجتمع المدني» وروايتا «الضريح» و«الضريح الآخر»، و«ظلال البيت القديم» (قصص). وكان آخر ما صدر له كتاب «المعجم اللغوي التاريخي، منهجه ومصدره».
التقت «الراي» الدكتور أبو العزم، وكان هذا الحوار عن رحلته الطويلة مع الكتابة وفي صناعة المعاجم التي لم تعد بالنسبة اليه مجرد مادة لاكتساب المعرفة اللغوية، اذ انتقلت تحت تأثير التطورات التقنية والمعرفية الكبرى الى عالم متحرك يخضع للتجديد والتحديث والتنوع. وهذا نص الحوار:
• بداية، كيف جاءت فكرة الانتقال من المعاجم الورقية الى المعاجم الالكترونية؟
- انها ضرورات العصر، فأهم ما يميز عصرنا هو تضخم المعلومات، وضرورة الاحاطة بها لمعالجتها وتحليلها وتنظيمها وفهرستها، الأمر الذي لم يعد بامكان الطاقات البشرية القيام به، كما أن شيوع استخدام الحواسيب في عملية التعليم والتعلم، أضحى حجر الزاوية للتزود بالعلم ومواكبة الفيض الهائل من المعلومات، مما يدعو حتماً ضرورة التعامل مع الحاسوب، وتطوير أدواته على قاعدة اللغة الوطنية، أي ادخالها في غمار التقنيات الحديثة، واستخدامها في ضوء الوسائل العلمية المتاحة لكي تصبح أداة عملية في مجال النشر الالكتروني.
• هناك من يعزو نجاح معجمك «معجم الغني» الى كونه من طبيعة أخرى بين المعاجم المتداولة لما تضمنه من شواهد أدبية وتعريفات ومصطلحات. شخصياً، كيف تقيم هذا الانجاز؟
- أوجز القول في خصائص «معجم الغني» على أنه بحث واستقصاء للرصيد اللغوي في المرحلتين الابتدائية والاعدادية في ضوء مجموعة معاجم عديدة، وهو محاولة للبحث في الرصيد الوظيفي اللغوي لمدارس المغرب وما أنجزته المؤتمرات العربية و«مكتب تنسيق التعريب»، مع الحرص على الأبعاد المدرسية والتعليمية باعتماد مداخل ثقافية عامة عدة، حين التعامل مع الرصيد اللغوي، مع مراعاة خصوصيات اللغة العربية والأخذ بالمعايير المعاصرة من دون التخلي عن الشواهد الأساسية من القرآن الكريم والسنة النبوية.
وبالنسبة الي، أعد هذا المعجم كجزء من مساري العلمي الذي أحاول أن أسد به ثغرة في مجال الانتاج المعجمي، ولأسهم به اسهاماً بسيطاً في تطوير العملية التعليمية.
• ماذا يميز المعاجم اللغوية الحديثة مقارنة بمثيلاتها في تراثنا؟
- اذا كان المعجم يعرَّف بأنه كتاب يضم رصيداً من المفردات اللغوية، مرتبة ترتيباً ألفبائياً، يضاف اليها معلومات عن معانيها ونطقها وهجائها وموقعها النحوي، فان ما يعطيها شحنة قوية، وطاقة حيوية هو ايراد السياق الذي ترد فيه، وهذا ما يحدد طبيعة المعنى بامتياز.
من الشروط المعجماتية بالنسبة الى المعجماتي المعاصر عندما يكون بصدد انجاز معجم ما، سواء كان موجها للمراحل التعليمية أو للثقافة العامة، ضرورة البحث عن استشهادات الكُتاب والأدباء، وهو بذلك مدعو الى استحضار مراجع ومصادر أدبية ودينية وفلسفية وعلمية، لكي يتمكن من جرد مفردات المداخل داخل سياقاتها، لايرادها عند الحاجة، ولتساهم في ايضاح المعنى لارتباطها به، ولأن أي معجم لا يتضمن استشهادات، فهو كما يقول فولتير «عبارة عن هيكل عظمي يابس فاقد لحرارة الحياة».
ان النقص الذي يشوب غالبية المعاجم العربية الحديثة هو خلوها من استشهادات الأدباء والكتاب، وما يرد منها يكون موضوعاً، وفي أحسن الأحوال يقدم كأمثلة توضيحية أو سياقية لا تؤدي ما يؤديه الاستشهاد، عندما يقدم بصيغته البيانية والأسلوبية حاملاً اسم صاحبه، زمانياً ومكانياً، بينما تحتل معاجم الاستشهادات النثرية والشعرية المنتقاة من أمهات المصادر التراثية التي تعتبر مراجع أساسية في مجالاتها الأدبية والبلاغية والعلمية، درجة متميزة، لما تشتمل عليه من موضوعات مختلفة، أو مواد مختارة لها طابعها الخاص في أي مجال من مجالات المعرفة.
• هل يمكن الحديث عن تطور ما في صناعة المعاجم العربية الالكترونية؟
- بالتأكيد. لقد تطورت صناعة المعاجم والقواميس الالكترونية العربية على نحو لافت، وكان الفضل يعود في ذلك الى شركة صخر التي تمكنت منذ ثمانينات القرن الماضي من جعل اللغة العربية في مصاف اللغات العالمية، وتحقيق طفرة هائلة في مجال تطوير أعمال وبرامج هي الآن تشكل خزانة مهمة في المدارس والمؤسسات والمعاهد والادارات.
عندما بدأت الشركة تفكر في وضع مخطط شامل لبرامجها، كان وعي الأنظمة العربية غائباً بأهمية الطفرة الاعلامية التي تحققت دولياً في مجال التخطيط لعصر المعلومات. كانت الشركة تملك تصوراً بمدى السرعة الهائلة التي يعرفها قطاع الاعلام والتواصل في مجال التقنية الالكترونية وما تم تحقيقه من منجزات أوروبية وأميركية في هذا الميدان في ضوء التجارب الأولى التي أنجزت، وما أصبحت تتوفر عليه من بنوك المعطيات وحواسيب ضخمة لتخزين المعلومات والمفردات بكميات هائلة جداً.
ولست هنا بمعرض الحديث عن الصعوبات التي واجهت كيفية تعامل الحاسوب مع اللغة العربية، نظراً الى انعدام دراسات لسانية حاسوبية، لكن الموضوعية تقتضي الاعتراف بالدور الرائد لـ «صخر» في اعادة النظر بكثير من الآراء المسبقة في شأن طبيعة اللغة العربية والادعاء بعدم قابليتها للمعالجة الآلية باستخدام الحاسوب. ومن هنا كان التحدي الأكبر لادخالها في غمار التقنيات الحديثة، واستخدامها في ضوء الوسائل العلمية المتاحة لكي تصبح أداة عملية في مجال النشر الالكتروني، وبالتالي النجاح في تطويع الحاسوب لخدمة اللغة العربية وثقافتها وحضارتها.
• ماذا عن أبو العزم الكاتب والروائي؟
- مشاغل النضال السياسي والرغبة في التحصيل الجامعي والقراءة، ذلك كله أبعدني عن الاستمرار في الكتابة الابداعية، وان لم يبعدني عن التفكير في الابداع. كنت ومازلت أنظر باستمرار الى الكتابة باعتبارها انتاجاً ذاتياً متغيراً عبر الأزمنة والأمكنة، وكل زمان له أسلوبه الخاص في الكتابة، وهناك الذات الفاعلة في التاريخ والواقع والسلوك بكل قيمه، وفي العادات المتراكمة والملتبسة بمحيطها، وهذا في رأيي ما يجعل كل كتابة ابداعية تنطلق من المعاناة، من الخيبات. قد ترتبط بتصورات تخييلية، وقد ترتبط بالتراث وتخييلاته، وقد ترتبط بالمباشر، ولكن في جميع الأحوال فإن همها الأساسي هو أن تصور عالمها المفقود في الواقع.
• ألهذا السبب اعتبر النقاد روايتيك «الضريح» و«الضريح الآخر» سيرة ذاتية؟
- كل كتابة مهما تنوعت مواضيعها ترتبط بالذات، بل تلتصق بها أيما التصاق. لا أحد يستطيع الادعاء بأن ما يكتبه هو محض أفكار وخيال أو خارج عن المعيشة وعما هو متداول في الحياة اليومية، وعندما تتولد الرغبة في الكتابة، يصعب ازاحة الذات، وكل ذات إلا وترغب في اعادة التوازن والاستمرارية على أساس النقد والنقد الذاتي لابراز الكينونة، ولإعطاء طعم حقيقي للحياة.
من هذه الزاوية لا يمكن للكتابة أن يكون لها معنى اذا لم تنطلق من الذات، الذات الكاشفة عن العيوب والنقائص، والباحثة عن التجديد والخلق والابداع، والكشف عن المسكوت عنه، وأعتبر كل كتابة ابداعية أو فلسفية أو اجتماعية ما هي الا اعادة الروح للذات، أي اعادة النظر في مجريات الواقع من أجل رؤية جديدة.
• ألا تبدو الاستعانة بالسيرة الذاتية أسهل من استنطاق الخيال؟
- ليس من السهل أن تحدث نفسك وأن ترغمها على الحديث عن ماضيك وأسراره، ففي هذه الحالة لا بد من التسلح بوعي ذاتي والاحتماء وراء جدران من الأسمنت الصلب، كما سبق لي التعبير عن ذلك، واغلاق النوافذ والارتماء في أجواء زمن مضى لاحيائه، وان كان مازال حياً يوجه الخطوات. كما ليس من الضروري أن تكون السيرة مليئة بالأحداث العظام وبعد انتاج أدبي غزير، لأنني أعتقد أن الأشياء والأحداث البسيطة المشتركة بين الناس لها العديد من الدلالات اجتماعياً وثقافياً.
وراء اختيار السيرة الذاتية شعور بأن هناك أشياء في منطقة النسيان معرضة الى الضياع والتلاشي، بعد تراكم حالات الاخفاق وبعد تعب البحث والاحساس بغليان داخلي يدفعك للبحث عن خبايا تريد الافصاح عنها ببساطة ومن دون تعقيد، وما له علاقة بالطفولة، لحظة تأمل تقودك للبحث عن الذات. لقد اخترت السيرة الذاتية لأنني اخترت العودة الى الذات، ولمداعبة الذاكرة ونفض غبار النسيان.
• ما الذي يحفزك على الكتابة؟
- الكتابة فضاء ذاتي لتشكيل العوالم الكامنة في النفس والتصور، قد تنطلق من الواقع الى الحلم، ومن الحلم الى الواقع لابداع اللوحة المشتهاة. وما أريد تأكيده في هذا الصدد أن هناك علاقة وطيدة بين الخيال والذات، وعندما تمتلك الذات القدرة على الكتابة وتتمكن من سلطة اللغة في امبراطورية الخيال أو الواقع فانها بذلك تعبر المستحيل والمحال، وتعكس بالضرورة مكامن الذات، ما يجعلها تتحول من ذات الكاتب الى ذوات الآخرين الذين لا صوت لهم، بمعنى أن كل كتابة ما هي الا تعبير عن الذاكرة الجماعية.