| علي الرز |
في اقسى ايام الحرب التي خاضها العدو الاسرائيلي ضد قطاع غزة، وفي ذروة الجهود التي كانت تبذل عربيا ودوليا لوقف المجزرة، لم يجد وزير الخارجية السوري وليد المعلم افضل من ذاك التوقيت للتصويب على المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الشهيد رفيق الحريري، فاطلق واحدة من «روائعه» الشهيرة التي طالب فيها بمحاكمة دولية لمحاكمة اسرائيل على جرائمها، وهو الامر الذي يؤيده الجميع، لكنه ارفقه فورا بالقول ان رجلا يقتل «هنا اوهناك» تقام له محكمة دولية، اما اهل غزة «فلأنهم فقراء» لا يطالب احد بمحاكمة اسرائيل دوليا.
اختصر المعلم كل «الحدوتة السورية» بهذه العبارة، وهو الذي يخلع رداء الديبلوماسية تحديدا عندما تصل الامور الى اغتيال الحريري كون اسمه ورد في تقرير المحققين بانه اعطى رواية غير حقيقية للقائه الاخير مع الشهيد. المسألة بالنسبة اليه ان «رجلا قتل» وان الرجل غني وان اهل غزة فقراء لذلك لم يهتم بهم احد. تبسيط جديد يشبه التبسيط الذي اعطاه لرواية لقائه الشهيد قبل اغتياله، لكنه كان اشارة الانطلاق لمرحلة تكثيف الهجوم على المحكمة اعلاميا وسياسيا من خلال توفير الارضية اللازمة لذلك.
بدأت الاصوات اللبنانية الحليفة تنفيذ «امر العمليات» بدقة مستفيدة من التغيرات الاقليمية والدولية. رفعت التهديدات المعلنة والمخفية شعار «الاستقرار مقابل المحكمة». تكثفت النصائح العربية والدولية للمعنيين: «الامر واضح وجريمة بهذا الحجم معروف من نفذها لكن الواقعية السياسية تقتضي ان تقرأوا جيدا المتغيرات لتعرفوا ان لعبة الامم قد تجرف دولا بعينها من اجل مصالحها. اكتفوا بالحقيقة وتجاهلوا العدالة».
اشادت سورية بكل التقارير التي اصدرها القاضيان براميرتز وبلمار واعتبرت انها مهنية ومحايدة وغير مسيسة، واطلقت «العدالة الدولية» الضباط الاربعة. اشاد كثيرون من قيادات المعارضة اللبنانية بعمل المحكمة وصدقيتها وكيف انها انحازت للحق. خرج سعد الحريري الى الناس وهو يعلن تقبله قرار المحكمة وكل قرار تصدره المحكمة. عاد زعماء المعارضة الى تصويب «المواقف الانفعالية» التي ظهرت في احتفالية استقبال الضباط في منازلهم، فاوضحوا ان
المحكمة مسيسة وان قراراتها غير مقبولة.
«دحرجت» اياد مجهولة - معلومة تقريرا الى «دير شبيغل» الالمانية يحرف انظار التحقيق من سورية الى الداخل اللبناني. هاجت الدنيا وماجت رغم ان تقارير كثيرة مماثلة سابقة وردت في وسائل اعلام اوروبية وعربية تحرف الانظار عن هذا الطرف او ذاك، لكن التوقيت هو الاساس.
صار التقرير اسرائيليا. صار امميا. صار عربيا. صار الساكت عنه في الداخل شيطاناً اخرس. تبدلت مواقف وتغيرت. تناثرت التفسيرات والمبررات وكثرت المخاوف من «ايام مجيدة» اخرى سيشهدها لبنان على غرار السابع من ايار.
فازت الغالبية في الانتخابات رغم كل عمليات القصف المركز والعشوائي. الحرية والسيادة والاستقلال والوحدة والعدالة والمحكمة شعارات ما زالت تشكل عصبا جامعا، لكن اقواها واقعيا عنصر المحكمة لانه خارج لبنان ولا يمكن تطويقه بخيمتين في الوسط التجاري او باجتياح عاصمة. الاداء السياسي لسعد الحريري رئيسا مكلفا للحكومة يختلف عن ادائه زعيما للغالبية الامر الذي يربك الكثير من مخططات التصعيد. فلتكن المحكمة في مرمى النيران و«يللا يا شباب».
ما مر يوم في الايام الاخيرة الا وتحدث حليف لسورية ضد المحكمة. توجت الحملة بالمؤتمر الصحافي العاصف القاصف للواء جميل السيد. تلقف الوزير المعلم التحية بافضل منها. استند الى كلام السيد ليقول ان المحكمة مسيسة فاتحا الباب لمزيد من الانقضاض في الداخل. المحكمة والنظام خطان يجب ألا يلتقيا فاما ان تذهب المحكمة ويبقى النظام واما ان تبقى المحكمة ويذهب النظام.
قصص المشاركة والتوافق والثلث المعطل والمثالثة والفرز الداخلي والخيارات الوطنية والحوار ومستقبل الصيغة وغيرها وغيرها، هي في الجوهر قصة المحكمة الدولية. «حدوتة سورية» يحكيها كل مسؤول على طريقته فيعيد مريدو «الحكواتي» روايتها... وكل على طريقته ايضا.
في مهرجان 8 آذار الذي اعقب استشهاد الرئيس الحريري عرض مشاركون في الحشد الكبير لافتات كتب عليها: «فاجأناكم مو؟»، ردت عليها لافتات الحشد الاكبر في 14 آذار: «ما فاجأتونا بنوب».
امس ايضا، لم نتفاجأ «بنوب»... لم تعد ضربة المعلم «ضربة معلم».
alirooz@hotmail.com