متابعة خمسون عاماً زاخرة بعطاءات باتت تصنّف في خانة «الزمن الجميل»

«تلفزيون لبنان» احتفل بيوبيله الذهبي وأنعش الأمل باستعادة عصر التألق والإبداع

1 يناير 1970 10:23 ص
| كتب إيلي خيرالله |
لعلّها المسؤولية الأكبر التي يواجهها المرء حين يحاول أن يختصر في بضع كلمات تاريخ محطة تلفزيونية أطفأت شمعتها الخمسين، وأسهمت في تنشئة الذائقة الفنية والأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية لدى أجيال وأجيال على مرّ عقود من الزمن، ما جعل اللقب الأبرز الذي يطلق عليها والمطابق لواقعها الحالي هو «ذاكرة وطن»، فمهما كتب ومهما قيل يبقى الكلام قليلا قليلا، لا يفي هذه المحطة ولو جزءاً يسيراً من حقّها.
البداية
في التاسع والعشرين من مايو عام 1959 بزغ فجر جديد قلب الموازين كافة رأساً على عقب، معلناً انطلاقة البث التلفزيوني لأول محطة في الشرق، سميّت آنذاك بـ «تلفزيون لبنان والمشرق». روايات كثيرة تناقلتها الألسن عن «الظاهرة» التي أحدثها التلفزيون في تلك الأيام، إذ يقال أن أهل القرى اللبنانية كانوا يلتمون في منزل أحد الوجهاء الذي مكنّته قدرته الشرائية من اقتناء ذاك الجهاز الساحر الذي سمي «تلفزيون» وكانت الجموع تملأ زوايا الصالة، حيث كانت العيون تحدّق منبهرة بهذه الشاشة الصغيرة التي يظهر من خلالها «ابو ملحم» ذلك الشيخ الجليل مقدماً أقصوصة مشوّقة في قالب اجتماعي يحاكي واقع تلك الأيام.
وكرّت السبحة من «ابو ملحم» الذي تحول الى شخصية نمطية لا تزال تستخدم للدلالة على أسلوب الوعظ والمثالية في الحياة، إلى «ابو سليم» وفرقته التي رسمت البسمة على وجه المشاهد في أعمال عدة، بدءاً من «سيارة الجمعية» و«المليونير المزيف» مروراً ب «كل يوم حكاية» وغيرها الكثير من الأعمال الحية في الذاكرة. ومن فئة الـ «سيت كوم» اللبناني نذكر«الدنيا هيك» الذي كان يعده الراحل محمد شامل، والذي اكتسحت شخصياته المجتمع اللبناني وتركت تأثيرا قلما عرفه أي برنامج آخر.
برامج محفورة في الذاكرة
وقد تميّز تلفزيون لبنان بجمع ثنائيات باتت نماذج يقتدى بها لعشاق تلك الأيام، ولعل الأشهر بينها جميعاً، الأميرة الفاتنة هند أبي اللمع التي التقت مع فتى الشاشة اللبنانية الوسيم عبد المجيد مجذوب في اكثر من عمل كان أبرزها «حول غرفتي» و«آلو حياتي» (وقد باتت هذه الكلمة تتردد على ألسنة العشاق عند تبادل أي مخابرة هاتفية) و«لا تقولي وداعاً» و«عازف الليل» وقد حملت هذه الأعمال توقيع زوجها المخرج الراحل أنطوان س.ريمي.. وتجدر الإشارة أن هند قد حققت نجاحاً في أعمال أخرى إلى جانب محمود سعيد في «السراب» وانطوان كرباج في «ديالا» وآخر من وقف أمامها كان إحسان صادق في «هنادي».
كما تكررت البطولة الثنائية بين الزوجين إلسي فرنيني وجورج شلهوب في أكثر من عمل منها «مذكرات ممرضة» و«رحلة العمر» و«الصمت»، كما شاركت فرنيني محمد ابراهيم بطولة «زوج الآنسة» وأكرم الأحمر «ميليا» علماً بان هذا الأخير كان قد شكلّ ثنائياً متناغماً مع آمال عفيش فأطلا معاً في أكثر من عمل منها «حكايتي» و«سحر».
كما تعلّقت قلوب المشاهدين بمحمود سعيد وسميرة توفيق في المسلسل البدوي «فارس ونجود» واحبوا كثيراً جاد (سمير شمص) ونسرين (نهى الخطيب سعادة) في أحد أروع إنتاجات الدراما اللبنانية «النهر» للمخرج إيلي سعادة.
ومن الروايات العالمية التي تحولت إلى مسلسل درامي لا يمكن أن ننسى «البؤساء» للأديب الفرنسي فيكتور هوغو وقد جسّد أدوار البطولة ببراعة متناهية كل من أنطوان كرباج وإيلي ضاهر ومارسيل مارينا وأحمد الزين.
كما كان للأعمال التاريخية حصة الأسد على الشاشة الأولى في الإنتاجات المحلية، فرأينا عبد المجيد مجذوب لابساً عباءة «المتنبي» ومحمود سعيد ممتطياً جواد «أبو فراس الحمداني»... وكان للأعمال البوليسية التشويقية نصيبها من النجاح. ومما لا شك فيه، أن ما من أحد من جمهور عام 1974 يسعه أن ينسى رائعة أغاتا كريستي التي نقلها إلى التلفزيون الكبيران أنطوان ولطيفة ملتقى وحملت عنوان «عشرة عبيد زغار».
المحطات المضيئة في تاريخ «تلفزيون لبنان» كثيرة كثيرة، فمن يسعه أن ينسى أعمالاً من مستوى «التائة»، «سر الغريب»، «مياسة»، « آثار على الرمال»، «ربيع»، «حتى نلتقي»، «تمارا»، «رصيف الباريزيانا»، «أبو بليق»، «بربر آغا» و«المشوار الطويل» الذي جمع الفنان المصري الكبير الراحل محمود المليجي مع الفنان المسرحي المميز الراحل «شوشو» وهذا الأخير ترك في رصيد التلفزيون كماً وافراً من الأعمال، وعند ذكر كوميديي شاشة «تلفزيون لبنان» لا يسعنا أن نغفل إسم الراحل ابراهيم مرعشلي وما قدمه من أعمال لا تمل من مشاهدتها والضحك عالياً ومنها «المعلمة والأستاذ» و«ابراهيم أفندي». والأهم ان الانتاج المحلي استقطب نجوما كبارا من الرواد وصنع نجوما كبارا أصبحوا رواداً في عالم المرئي. وهذا يطول أيضاً عالم تقديم البرامج فمن رحم تلفزيون لبنان ولدت أسماء من طراز «نجيب حنكش» و«سعاد قاروط العشي» و«عرفات حجازي» و«عادل مالك» و«سونيا بيروتي» و«جورج قرداحي» و«غابي لطيف» وغيرهم من كبار الإعلاميين.
زمن الانحطاط
وكانت محنة تلفزيون لبنان قد بدأت مع بداية الحرب اللبنانية، إذ تأثر بجو الانقسام الذي كان سائداً آنذاك، فتحول الى قناتين في تلفزيون واحد. وقد ظهر الانقسام جلياً مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ثم مع انتفاضة 6 فبراير 1984 وتكرس مع ما سمي «حرب التحرير» في نهاية الثمانينات عندما فرض وجود حكومتين قيام شركتين لتلفزيون لبنان في الحازمية وفي تلة الخياط.
بعد توقّف الحرب عام 1990، حاول تلفزيون لبنان استعادة زمام الانتاج التلفزيوني، فأنتج مجموعة من الأفلام التلفزيونية (التيلي فيلم) وبعض المسلسلات القصيرة التي تتألّف من خماسيات أو سداسيات أو سباعيّات. واستقطبت هذه الاعمال الجمهور الذي عاد اليها رغم المنافسة الشديدة للمحطات التي نشأت خلال الحرب والتي تميزت بتقنياتها المتطورة وقدراتها المالية الكبيرة قياسا بالتلفزيون الرسمي.
مرحلة الإنعاش
مع مسلسل «العاصفة تهب مرتين» الذي لا يزال نجم الاعادات على الشاشة الرسمية، انحسر مجد المسلسلات المكسيكية المدبلجة الطويلة والضاربة لمصالح الاعمال المحلية. وذلك في عام 1994 حينها بدأ انيس شكري فاخوري الكتابة، لينطلق العرض وتنطلق معه مدرسة جديدة في عالم الدراما اللبنانية. وبعد «العاصفة تهبّ مرّتين»، قدم فاخوري مسلسل «نساء في العاصفة»، وقيل إنّ الأرباح التي حقّقها العملان، كانت كافية لتغطّي كل خسائر البرامج الأخرى التي كانت تعرض على المحطّة نفسها. لكن موجة الحظ لم تستمر طويلا في التلفزيون الرسمي ليخضع بموجب التجاذبات السياسية لمحاولات إصلاح لم تقض عليه، وكذلك لم تعده الى الحياة الاعلامية منافساً في مواجهة المحطات الخاصة التي نالت رخصها على اساس المحاصصة السياسية.
آمال وطموحات
تلفزيون لبنان الذي كان يملك أحقية البث الحصري في الفضاء اللبناني لغاية العام 2012، كما صرّح ذات مرة أحد مديري التلفزيون السابقين فؤاد نعيم، بات يكسب قوته من فضلات الإعلانات التي لا تجد مكاناً لها على شاشات القنوات التلفزيونية الخاصة، وهو لا يحظى بأي تعويض من تلك القنوات التي سحبت البساط من تحت قدميه، دون أن يرّف لمالكيها اي جفن كونهم محميين من الزعامات السياسية.
وزير الإعلام اللبناني طارق متري أطل على شاشة «تلفزيون لبنان» في ذكرى تأسيسه وتحدّث عن عناوين خطته التي سيعرضها على مجلس الوزراء، من أجل النهوض بالقناة الرسميّة، وأنعش الأمل في نفوس الأوفياء لهذه الشاشة والذين يجتاحهم الحنين لرؤيتها تستعيد دورها الريادي في الفضاء العربي وخلدوا إلى النوم في تلك الليلة وهم يحلمون بأن يستيقظوا في صباح قريب على تلفزيون الوطن اللبناني وهو يؤسس لعهد جديد من الإنجازات علّها تكون بعد خمسين سنة أخرى ذاكرة مشرّفة للأجيال القادمة.