نادين البدير / من مصر

1 يناير 1970 02:04 م
| نادين البدير |
هكذا ليتنعم الحب ببركة النيل، يجلس العشاق على ضفافه بأوضاع اقترب بعضها من العناق. وكانوا وصلوا من رحلتهم متعبين، فالانهاك باد على الوجوه والأجساد والأزياء.
على ضفاف النهر متسع كبير للرومانسية ولأبدية الأحلام المستحيلة في بلد أكثر من نصف أبنائه يعيشون تحت خط الفقر..
للمرة الأولى أعرف أن للفقر رائحة يمكن تلمسها... ليست حزينة، بها شيء باعث على الحياة.
كيف يجد الفقير وقتاً للحب؟ وللضحك؟ وللجنس؟
شعب يهزم فقره ومصائبه وأحزانه فيحول عدوه الى نكتة تضحكه عالياً، وبعد أن يقهقه يعجنها ويلوكها ثم يبصقها، هكذا يتحايل على أقداره وأوجاعه. وهكذا نجا من نكسات كثيرة لم يبق سوى أن تسرق خيالاته. النكتة أعظم سلاح يمتلكه شعب. يحسد عليها كل المصريين الظرفاء.
***
الازدحام خانق ساعات الظهيرة، المرور فوضوي عشوائي في القاهرة كالمناطق العشوائية التي بنيت على أطرافها. حاولت يوما ايقاف السائق وهو يتجاوز الاشارة الحمراء. فقال لي مازحاً: لو وقفت عندها يخبطوني من ورا.
المباني متهالكة، الحالة الدينية المستشرية غريبة على الشارع المصري القديم الذي عرف عنه ليبراليته وانفتاحه مقارنة ببقية الشوارع العربية..
الوضع الاقتصادي مترد بشكل مزر، لكن كل ما له علاقة بالمتعة الممكنة لا يتردى أو ينضب فحالات الانجاب لا نهاية لها رغم العوز.
الكل يحب، الكل يتزوج، والكل يريد أن ينجب. وكلما زاد الفقر زاد النسل.
يريدون أن يملأوا كل جحر بانسان، لا أحد يفكر كيف سيعيش، المهم متعة لحظات الجماع التي يمكنها أن تغني عن مطاعم الخمس نجوم والفنادق المحرمة على كثيرين.
***
شعب متعلق بالأرض ملتصق بها، لا يرى الأوجاع لدرجة مبالغ بها، تحدث أحدهم عن تلوث الجو فيستغرب: تلوث ايه؟ لا ده هو بس الطقس النهاردة مغيم.
تقول له كيف أن النيل ملوث، فيخبط على صدره ويولول.
هذه القناعة وذاك الزهد أو تجميل الانكسار مثل قولبة المأساة نكتة ليست وليدة الأفراد، كانت وليدة الأخطاء السياسية وتراكميات المعارك وفقد الأعزاء من أجل قضايا عربية خاسرة تبنتها مصر، اليوم لا وقت للنقد المترف. فحتى المفكر صار يبحث عن لقمة العيش، واكتفاء تام بمشاهدة بقايا الحضارات السابقة.
***
وعرائس النيل
عرائسه كلهن محجبات، لم أر شعر واحدة تقف هناك.
هنا لا يمنع الحجاب صاحبته من اعلان حبها، أحاطت احداهن ظهر حبيبها بذراعها، ووقفت شاردة بالمياه، بالفراغ.
معرفتي بشكل الشارع المصري جاءت من دراما الخمسينات والستينات، ومعرفتي بنسائها عززتها كتب عن الحركة النسوية أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
جئت لتغطية خطة نضالية قديمة انتهت بشكل تقريبي، وتحل محلها اليوم نضالات جديدة خرجت أو تفرعت من حركات دينية مسيسة.
في مصر نزعت هدى شعراوي الغطاء الذي يخفي المرأة ويخيفها، عائشة التيمورية كانت هنا، نبوية موسى وصفية زغلول ودرية شفيق وملك ناصف وعائشة راتب وبنت الشاطئ وسكينة فؤاد وأمينة شفيق، بقي جيل فريدة النقاش.
أين ذهبت الأوائل. ولا حتى بقايا فكرة. كله ذهب سدى. صورهن ليست معلقة على الجدران وليس لهن تماثيل منحوتة في الشوارع والحدائق. حسروا وأفكارهن في الكتب بإحكام.
أرادت المرأة سابقا اصلاح المجتمع انسانياً، وتأتي خليفتها الفقيهة تريد اصلاحات من داخل الدين. لا ليست خليفتها، لم تولد واحدة بعد.
القنوات التلفزيونية الدينية بها عدد من المصريات منهن متراجعات عن دنيا الفن السينمائي، غطاء شعر وماكياج وابتسامة. الأمر كله متعلق بالشعر فقط. ما حدث كان انقلابا على الحريات. وتحولت الحضارة من سباق نحو الرقي الى صراع حول ما يظهر من خصلات.
من سلام وطمأنينة الى أصولية مستشرية بشكل عجيب تنظر الى أتباع الديانات الأخرى والى السيدات كمواطنات من درجة ثانية.
نكسة ضمن النكسات العربية
لكن مصر (رمز الليبرالية قديما) باقية، بمكانتها وتاريخها وماضي رجالها ونسائها الحر الثوري الذي لا بد وتستعيده مصر يوماً.

كاتبة وإعلامية سعودية
Albdairnadine@hotmail.com