| بيروت - من منى حمدان |
هي أقدم مهنة في التاريخ، يرجع السبب في نشأتها إلى حاجة الرجل إلى اشباع حاجاته الجنسية وحاجة الأنثى إلى المال. هكذا يتبادل الطرفان الخدمات. الفتاة تقدم الجسد الذي تملكه والرجل يقدم المال الذي يملكه. هي إذاً مهنة مصالح متبادلة، هي مهنة البغاء التي يمكن، وبمنتهى السهولة، أن تتحول اتجاراً بالبشر، عندما تجبر الأنثى على تقديم جسدها مقابل المال.
يعتبر لبنان مقصداً للنساء الأفريقيات والآسيويات اللواتي يجري الاتجار بهن، إذ يقوم صاحب وكالة استقدام خادمات بجلب هؤلاء النساء للعمل كخادمات منازل، ثم يقوم بإجبارهن على العمل في البغاء. أيضاً يعتبر لبنان مقصداً للنساء الآتيات من بلدان أوروبا الشرقية وروسيا اللواتي يجري الاتجار بهن لأغراض الاستغلال الجنسي، إذ تسافر هؤلاء النسوة إلى لبنان بصورة طوعية وقانونية، لكن ينتهي بهن المطاف إلى العمل بالإكراه أو يخضعن لاعتداءات جسدية وجنسية، وعدم دفع أجورهن، ومصادرة جوازات سفرهن. إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود فتيات كثيرات يعملن في هذه المهنة بكامل إرادتهن، من دون إجبار من أحد.
من المعابد الى الشوارع
في لبنان، ظهر أول اهتمام بقضية البغاء في العام 1931 عندما وقّع رئيس الجمهورية آنذاك شارل دبّاس، قانون «حفظ الصحة العامة من البغاء»، والذي حدد لوائح للمومسات، منها ألا يقل العمر عن 21 عاماً ويحظّر على بائعة الهوى ارتياد الأماكن العامة. في العام 1957 تراجع نشاط البغايا اللواتي يعملن في بيوت مرخّص لها، لتظهر شبكات بيوت واماكن المتعة السرية في بيروت وضواحيها قبل أن تغلق الحرب الأهلية، التي اندلعت في العام 1975 هذا السوق. إلا أن الحرب لم توقف تجارة البشر، بل ظهر، بسبب الحرب، نوع جديد من بائعات الهوى اللواتي يعملن تحت حماية الميليشيات وفي مناطق التهجير التي ازدهرت فيها الكازينوهات والمراقص.
وحسب المراجع فإن تطوّر المجتمعات وانتقالها من الزراعة إلى الصناعة، ونزوح رجال الأرياف إلى المدن من أجل العمل في الصناعة التي كانت تزدهر أكثر يوماً بعد يوم، ساعد في تطوّر واستمرار ظاهرة البغاء. وإن انتقال المستويات الاقتصادية من الضرورة إلى الرفاهية لعب دوراً مهماً في ظهور هذه المهنة. وفي منطقتنا العربية حتى القرن العشرين قبل الميلاد، كانت لا تزال توجد بقايا ممارسات دينية وثنية غريبة يتم فيها استخدام البغاء كتعويذة في المعبد، فكانت الفتيات تقدمن أجسادهن في المعبد في مقابل تنفيذ مطالب معينة.
وممارسة البغاء في المعابد مع الغرباء شيء ثابت وموثق ومكتوب على ورق البردى المصرية وعلى الأواني الفخارية البابلية واليونانية والآرامية...وكان في ذلك الوقت أمراً عادياً أن تذهب الفتاة إلى المعبد الوثني وتمنح نفسها على عكس أيامنا هذه، إذ تعتبر الفتاة التي تعمل في هذا المجال سيئة السمعة، وغير جديرة بالاحترام.
السلطات اللبنانية لا تمنح تراخيص للمومسات، لكن هذه التجارة ناشطة جداً في لبنان، لأن الآتيات من الخارج يدخلن إلى البلاد تحت ستار الفن وعرض الأزياء، والقوادون في هذه العمليات يصطادون الفتيات اللواتي يخدعهن سراب الثراء وعالم الشهرة البرّاق واللامع. وفي إطار حملتها لمكافحة البغاء أغلقت السلطات اللبنانية عام 2003 خمسة محال لتناول المشروبات الكحولية، ومحلاً واحداً للتدليك، وأصدرت 51 تحذيراً لثلاثين نادياً للبالغين لعدم امتثالها للوائح التنظيمية. كما ألقت القبض على صاحب محل ملابس نسائية اتخذ من محله وكراً لممارسة البغاء وبيع مواد جنسية محظورة من مجلات وأفلام إباحية.
الدعارة على أشكالها
اليوم يمكن التمييز بين ثلاثة أشكال رئيسية للدعارة في لبنان. الشكل الأول يمكن أن نسمّيه دعارة التصدير وهو النوع الذي يعتمد على تصدير الفتيات، وهو يقوم على دعارة شبه محترفة يشترك فيها محترفون وهواة. هذا النوع يستند إلى فتيات العالم النوعي: عارضات أزياء، وطالبات جامعيات، وفنانات، وراقصات... وتتم عبر رحلات منظمة. القوادون والقوادات في هذا الشكل ينتمون بغالبيتهم إلى النخبة الاجتماعية، أي مزينين وأصحاب وكالات عرض أزياء. لذلك تعرضت مهنة عرض الأزياء إلى الكثير من الهجوم والبعض وصفها بأنها مهنة سيئة السمعة. وهذا هو النوع أو الشكل الذي تنتمي اليه فضيحة مدينة «كان» الفرنسية، حيث القت الشرطة الفرنسية القبض على صاحب وكالة عرض أزياء لبناني حوّل، حسب الصحف الفرنسية، وكالة العرض إلى شبكة دعارة وظّف فيها شابات لممارسة البغاء مع زبائن أثرياء من دول الشرق الأوسط.
الشكل الثاني يعرف بدعارة الاستيراد وهي ترتبط باستيراد الفتيات من دول أوروبا الشرقية، والملاهي السياحية في لبنان تمتلئ بفتيات روسيات وأوكرانيات ورومانيات.
أما الشكل الاخير فهو معروف بالدعارة المحلية وهي أكثر الأشكال بؤساً وفقراً، تتوزع بين البيوت وبعض الأماكن والأحراج المعزولة.
البيوت تضم في كثير من الاحيان فتيات من الوسط الفني وعالم عرض الأزياء، أما دعارة الشوارع فهي الأكثر شيوعاً والأرخص سعراً. وكان شارع الحمراء في الخمسينات والستينات مقراً لمحلات الدعارة، وفي السبعينات ومطلع الثمانينات انتقلت المحلات إلى منطقة الروشة.
ويحكى عن سيدة تعرف باسم ماريكا إسبريدون نجحت في خلع الاسم عن المسمى، فصار اسم ماريكا لا يدل على المرأة بعينها، بل على المهنة بأسرها. ماريكا، اليونانية الأصل، كانت سيدة شارع المتنبي. هذا الشارع الذي كان يقع في وسط بيروت كان يعرف بسوق البغاء الرسمي في بيروت. يقال إنها كانت تذهب إلى القداس يوم الأحد في الكنيسة الاورثوذكسية وإنها أهدت أجمل الثريات إلى الكنيسة. لكن الحرب الأهلية دمرت شارع المتنبي ودمرت معه ثريات سيدة مومسات لبنان، ماريكا التي ماتت وحيدة، معزولة في منزلها الصغير في منطقة فرن الشباك.
الأمل...في الدار
تشير الدراسات إلى أن السبب الرئيسي للبغاء يكون في غالب الأحيان هو الدافع المادي لأن معظم المومسات من الطبقات الفقيرة، بالإضافة إلى عوامل اجتماعية ونفسية، مثل حالات التفكك الأسري والاغتصاب وسفاح القربى. وهذا تؤكده أيضاً المساعدة الاجتماعية في جمعية «دار الأمل»، نهاد بستاني، التي تقول إن «غالبية الفتيات اللواتي يلجأن الى الجمعية، اتجهت الى هذه المهنة بسبب الفقر وطمعاً بالمال». جمعية «دار الأمل» هي جمعية لبنانية تأسست في العام 1969 بهدف تقديم المساعدة للفتيات اللواتي يعملن في البغاء أو «يعتبرن ضحايا البغاء»، كما تفضّل السيدة بستاني أن تسمّيهن. وتضيف: «الجمعية تساعد الفتيات على تخطي مشاكلهن والابتعاد عن هذه المهنة والعمل في مهن شريفة، وتؤمن لهن مركز استقبال وتأهيل نفسي ـ اجتماعي وخدمات أولية تتضمن الطعام والملابس، بالإضافة إلى مقر إقامة غير دائم لأن الجمعية تقفل أبوابها في الساعة الثالثة بعد الظهر». أما عن المرأة التي ليس لها مكان إقامة وتريد ان تترك هذه المهنة، ترسلها الجمعية إلى إحدى المؤسسات الاجتماعية، التي تنسّق معها، مثل بيت الشابات المسيحيات، حيث يتم تأمين مكان إقامة دائم للفتاة داخل المؤسسة. وتؤكد بستاني أن الجمعية «تعمل على مشروع إنشاء بيت صغير تضم فيه الفتيات اللواتي لا مكان إقامة لديهن، لكن المشكلة الاساسية مادية وهذا يؤخر تنفيذ المشروع.
المساعدة التي تؤمنها الجمعية تتضمن محاولة حل مشاكل الفتاة القانونية والصحية والنفسية. أما النساء المتزوجات واللواتي يجبرهن أزواجهن على العمل، فتقول بستاني عنهن إن «الجمعية تساعدهن في ترك أزواجهن وفي الحصول على الطلاق وتؤمن لهن مكان إقامة وعملاً شريفاً».
أبناء الحرام
ممارسة هذه المهنة يمكن أن تؤدي الى حمل الفتاة غير المتزوّجة، وهذا أمر مرفوض اجتماعياً ودينياً في لبنان، لذلك «دار الأمل» تساعد الفتيات اللواتي يرغبن بإبقاء الطفل. تقول بستاني: «نحن ضد الإجهاض، لذلك نساعد فقط الفتاة التي تريد الاحتفاظ بابنها، نؤمن لها مكانا تعيش فيه. (راهبات الراعي الصالح) هي مؤسسة تضم الحوامل غير المتزوجات. و(دار الأمل) تساعد الفتيات في تسجيل الطفل في الدوائر الرسمية. فالقانون اللبناني يسمح للمرأة غير المتزوجة بتسجيل ابنها باسمها وفي خانة اسم الأب يتم وضع أي اسم، ليس بالضرورة أن يكون اسم الوالد الحقيقي». أما بالنسبة إلى الأسباب التي تدفع الفتيات إلى ممارسة هذه المهنة بالنسبة إلى بستاني فتتطابق مع نتائج معظم الدراسات وهي الأمية اذ إن 95 في المئة من الفتيات اللواتي يطلبن مساعدتنا هن أميات، بالإضافة إلى أن الكثيرات الآتيات من مجتمعات وعائلات فقيرة جداً، والعائلات المفكّكة وزواج الفتاة المبكر وسفاح القربى والاغتصاب، والخادمات اللواتي يتعرّضن إلى العنف الجسدي والجنسي في منازل مخدوميهم. وأخيراً الأزواج الذين يجبرون زوجاتهم على هذا العمل لجلب المال، والمومسات اللواتي تشجّعن فتياتهن على ممارسة هذه المهنة». وتؤكد بستاني «ان نحو 80 فتاة تأتي سنوياً إلى (دار الأمل) طلباً للمساعدة».
زينة و«المنقذ»
من ضمن هؤلاء الفتيات، زينة. تتردّد زينة على الجمعية لمساعدتها على تأمين عمل لتساعد زوجها في المصاريف. قصّة زينة بدأت عندما انفصل والداها وهي صغيرة، وتزوّج الوالد. تقول زينة: «زوجة والدي كانت تكرهني، لذلك كانت كلما خرجت من المنزل تقول لأبي إنني فتاة سيئة السمعة وأعمل في مهنة غير شريفة، مع أنني لم أكن قد بدأت هذا العمل بعد». كانت اتهامات زوجة الوالد لزينة باطلة، لكنها عندما أصبحت في الرابعة عشرة من عمرها قرّرت ترك المنزل لتعيش مع فتاة تعرّفت إليها. تضيف زينة بحرقة: «كانت في التاسعة والعشرين من عمرها خدعتني، قالت لي تعالي واسكني معي وأنا أؤمن لك عملاً. ذهبت معها وتفاجأت أنها تعرف رجالاً كثراً، كانت تطلب مني دائماً أن أجاملهم كي يعطوني وظيفة ملائمة». فعلت زينة ما طلب منها وجاملت هؤلاء الرجال إلى أن اكتشفت بعد أيام أن صديقتها تعمل في البغاء وطلبت منها أن تعمل معها. وافقت على العمل لأنها أرادت مكاناً تعيش فيه ومالاً تعتاش منه. وبقيت على هذه الحال مدّة عامين على ما تقول.
هي نادمة لأنها ضيّعت عامين من حياتها في هذا العمل، الذي جلب لها حظاً جيداً. من خلال عملها تعرّفت زينة على شاب، كانت واقفة في الشارع ومرّ هذا الرجل بسيارته فتوقف وطلب منها أن تصعد معه. اعتقدت زينة أنه يريد أن تقدّم له خدماتها، لكنها اكتشفت أنه لا يريد منها شيئاً. تروي زينة: «تحدّثنا مطوّلاً وأخبرته قصّتي، فعرض عليّ الزواج والتوقف عن هذا العمل. وافقت وتزوّجنا وأنجبنا طفلين».
زينة اليوم في السابعة والعشرين من عمرها، تحبّ زوجها جداً أو «منقذها»، كما يحلو لها أن تناديه.
تقول وصوتها تدغدغه مشاعر الحب والفرح: «أنقذني زوجي من الحرام الذي كنت أعيش فيه وعوّضني عن الحنان الذي افتقدته في بيت أهلي».
تتردّد زينة على «دار الأمل» بهدف مساعدتها في تأمين عمل لزوجها والحصول على بعض الأدوية والملابس والطعام. هي ليست غنيّة اليوم كما كانت تحلم في صغرها أن تكون. بل هي فقيرة لكنها سعيدة رغم فقرها لأنها استطاعت ان تتخلى عن هذه المهنة ووجدت رجلاً يتزوّجها ويحبها وأصبح لديها اليوم عائلة متماسكة».
نادين و«المقرف»
أما قصّة نادين فتختلف، هي لم تتزوج من ينقذها، بل تزوّجت من أجبرها على ممارسة البغاء، لتجلب له المال. الزوج، لا يعمل، يجلس طوال النهار في المنزل ويجبرها هي على العمل. نادين تزوّجت في سن مبكرة. تقول: «نحن من عائلة فقيرة جداً، لذلك زوّجني والدي إلى أول شخص طلب يدي، كنت حينها في السادسة عشرة من عمري». لم ترزق نادين باولاد لأنها تستعمل دائماً حبوباً مانعة للحمل، خوفاً من أن تحمل من رجل لا تعرفه. تقول إنها عملت ثلاث سنوات متواصلة بالإكراه إلى أن سمعت عن «دار الأمل» من إحدى صديقاتها، فقرّرت أن تلجأ اليه. تقول: «ذهبت إلى الجمعية وشرحت لهم عن وضعي، وقلت لهم إنني لم أعد أريد أن أعيش مع زوجي، ولا أن اعمل في هذه المهنة المقرفة. ساعدوني كثيراً، في البدء امّنوا لي مكاناً أعيش فيه، في إحدى المؤسسات الاجتماعية، ثم ساعدوني في الحصول على الطلاق من زوجي. الحمد لله انني تخلّصت منه ومن هذه المهنة». وفي وقت تعمل جمعية «دار الأمل» على مساعدة البغايا على التخلص من هذه المهنة، تم افتتاح، منذ عامين، في الولايات المتحدة الاميركية، أكاديمية لتعليم فنون البغاء. وانضمت 25 بائعة هوى إلى الكلية المتخصّصة في تعليم البغاء، لإلقاء محاضرات عن طرق التسويق الفعال وتخفيف حدة التوتر والاجهاد. وفي نهاية كل دورة تحصل المشاركات على شهادة ديبلوم مصدّقة على اعتبار أنهن من خريجات الأكاديمية. بالإضافة إلى أن هولندا وألمانيا تعتبران هذه المهنة كغيرها من المهن، يتم التصريح عنها، وتحصل البغية في هذه الدول على تعويض بطالة وضمانات اجتماعية وصحية.