إشراقات النقد / علي السبتي... تجربة شعرية محملة بإشراقات التاريخ وهموم العروبة (2-2)

1 يناير 1970 03:37 م
|سعاد العنزي|
تجربة علي السبتي، تجربة من التجارب التي تكثر فيها التأملات والاستبصارات المعرفية، التي تعكس فكر وثقافة الشاعر، المتسربة في دهاليز اللغة، والفكر والفلسفة، العربية والغربية، مما حقق، مبحثا خاصا يستحق الدراسة، وهو التناص، والتعالق النصي بين قصائده، وقصائد كثير من الشعراء السابقين له، والمعاصرين، مما أحدث ثورة وثروة مجددة على مستوى الشكل والمضمون، إن شاعرا شكل مشروعه الثقافي والفكري الحضاري، مع عمالقة ورموز الأدب العربي، كبدر شاكر السياب، صديق عمره، وحلمه الذي ودعه باكرا، والدكتور عبدالله العتيبي، وأحمد العدواني، لا بد وأن يحدث له تعالق في الرؤى واللغة والأساليب، ما دامت تشكلت من بوتقة فكرية مشتركة، ومن تساؤلات مسيرة حضارية، تؤرق مضاجعهم، وتوتر البنى الفكرية واللغوية لديهم.
من هذا التقاطع العالمي.... نجد قصيدة الأرض اليباب ل ت. إس. أليوت، التي شكلت رافدا كبيرا ذا وقع كبير على الشعر العربي، الذي كان من تداعياته، ولادة قصيدة التفعيلة، والشعر الحر.
من هنا نجد الشاعر علي السبتي، يشكل قصيدة تتناسل من قصيدة «الأرض اليباب»، وهي قصيدة: «عودة إلى الأرض الخراب» التي تمثل لحظات العودة إلى أرض خراب، ليس فيها سوى الأبواب التي تعبث بها الرياح فتصفع بها واحدا تلو الآخر، لتحيل إلى روح متألمة وسط أراض قفار، مهجورة تعصف بها الأنواء، فيقول:
«عدت من جنة أحلامي إلى الأرض الخراب
عدت للدار التي تصفعني بابا فباب
عدت يا قبر الشباب
مرغما يسحقني القيد يدمي معصمي
ماتت الآمال في روحي فلا شيء لدي» (بيت من نجوم الصيف، ص 84)
وعلى الرغم من تقاطع الأبيات السابقة مع قصيدة «الأرض الخراب» لأليوت بالروح والنفس العام، إلا انها لا تخلو من تقاطعات كبيرة مع فكرة الأطلال التي كانت اللبنة الأولى من الشعر الجاهلي، في بناء النص الشعري، كما انها تعود بالمتلقي، إلى قصيدة «الأطلال» لإبراهيم ناجي، فعندما يقول الشاعر: «عدت يا قبر الشباب مرغما يسحقني القيد يدمي معصمي» يذكرنا بقول إبراهيم ناجي:
يا لقيدك من قيد أدمى معصمي
لم أبقيه وما أبقى عليا
وذلك يؤكد مدى التماهي والتشابك بين تجارب الشعراء، الذين يبرهنون على وحدة التجربة الإنسانية، على الرغم من اختلاف تفاصيلها البسيطة، إلا انها تصب في تجربة إنسانية تشكو الفراق والبين، وتعاني آلام الروح، التي تتراقص أمامهم، كأشباح، تقض مضاجعهم.
هذه الأرض الخراب، لا تنطبق على العنوان وحسب، بل إن العنوان، وهو المفتاح الدلالي الأول للقصيدة يتسرب دلاليا إلى كافة النص، لأن الشاعر لا يرى إلا الخراب في كل مكان:
«والشواطئ لم تعد تومي لنا، بيتها شط ومثواي قصي، أنت في وادي الأفاعي، عدت للأرض التي تنبت سلا وعذابا أزليا» (السابق، ص 85)
وهنا يكون الشاعر قد أضفى حالته النفسية على المكان، المنطلقة من أزمة الاغتراب النفسي، وهو على أرض الوطن، وبعد حال التفريغ الانفعالي ينطلق الشاعر في القصيدة ليكون حامل الشعلة، والمسيح، الذي يصلب من جديد، ويصبح صليبه هو الموقد وشعلة الأضواء أمام البشرية لتحقق لهم الآمال، ولتبني أفقا إنسانيا أرحب مجسرا الفجوات، مليئا بالإرادة، بعد عذابات المسيح:
(وأنا فيها المسيح
تأكل الغربان من عيني
تمتص دمي
فأداري ألمي
وصليبي بيدي مشعل نور
فأرى في الغيب تنشق البحور) (السابق، ص 86)
فيكون النص قريبا مما يقوله السياب، بتحويله لصورة المسيح، وفق تناص تحويلي تعديلي، يتناسب وفق البيئة والمعطيات المحلية، والواقع المعاش، الذي يتمنى من يعدل ويقوم اعوجاج العالم، وفق نبوءته، وصبره، ورسالته التي تصحح المسار مع جهل القوم له في الحال الأولى، المسيح مع أهله الذين كذبوا نبوءته، والحال الأخرى، حال الشاعر وهو يعيش آلام المعرفة، ورغبة التغيير، فلا يجد سوى الجمود والاستاتيكية، والتخلف، فتتماهى الحالين في حال واحدة، ومن ضمن ذلك تتوحد صورة المسيح لدى الشاعرين علي السبتي وبدر شاكر السياب إذ يقول الأخير:
«وأرضنا الخضراء في مخاضها...
تحلم في ألف يسوع يحملون
صليبهم في ظلمة السجون
وسوف يكثرون
وسوف ينجبون
ذرية تزرع أرض الله ياسمين
تصنع أبطالا وقديسين
تصنع ثائرين». (أشعار في المنفى، ص 68-69).
وبذا يتضح ان عالم الرموز الدينية، والأسطورة في تجربة الشاعر مثلها مثل الشعراء العرب، «أصبح رمزا لأمل الشعراء العرب في عالم جديد يعقب موت العالم القديم المهترئ الذي لم يعد ملائما للحياة الحديثة، ولن يتأتى ذلك إلا بزوال هذا العالم القديم، وانبثاق عالم جديد قوي فتى في أعقابه، كما يعقب موت أدونيس بعثه إلى الحياة مرة أخرى».
(الشعر العربي الحديث، س. موريه، تر: د. سعد مصلوح، د. شفيع السيد: ص 371)
في نهاية بداية الكتابة، عن شاعر مجدد ومفكر أصيل مثل علي السبتي، هل يمكن تناسي عوالم شعرية تتلاقح في قصيدة السياب، تعتمد على التناص ذاكرة الأدب، كما انها تولف بين القديم والجديد، فيرى القارئ في القصيدة الواحدة الشكل العمودي، والشعر الحر والتفعيلة، كما يرى رموز الحضارة العربية الأصيلة، مع رموز الفكر العالمي، أو تجاهل صورة الأماكن، والأزمان التي تتعاقب في القصيدة الواحدة، ليرى القارئ المعرفة منسوجة شعرا، التي لا تمكن نفسها إلى من فارس اعتلى جواد القوافي والكلم، فأتته مذعنة بكل طاقاتها المتفجرة، أمام قصائده، قلائد الأدب الكويتي الثمينة.
* أديبة وناقدة كويتية
Mobdi3on@windowslive.com