أماكن / أم المساكين (2 من 2)
1 يناير 1970
08:51 م
| جمال الغيطاني |
.... من وراء ستار بيتها كانت السيدة زينب... ترقب تطور الأحداث المأسوية، في موقعة «الجمل»، ثم موقعة «صفين» مع معاوية، ثم معركة «النهروان» ضد الخوارج، خمس سنوات متصلة لم يهدأ والدها الامام علي «رضي الله عنه»... عن خوض المعركة تلو الأخرى، حتى فاضت روحه الطاهرة سنة 40 هجرية.**
ثم شيعت شقيقها الحسن العام 49 هجرية... حيث دفن في البقيع، وقيل ان معاوية دسّ له السم في العسل، وهنا نقترب من أحد أكثر مشاهد التاريخ الاسلامي مأسوية، الى ما جرى في كربلاء، في العاشر من المحرم استشهد الحسين وهو يحارب في نفر قليل من صحبه.
وبعد انتهاء المعركة سبقته السيدة زينب حفيدة الرسول «صلى الله عليه وسلم» بين السبايا، وبين يديها الطفل زين العابدين، الذكر الوحيد الباقي من نسل سيدنا الحسين، وعند مرورها بأشلاء القتلى صاحت زينب:
«يا محمداه، صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا محمداه هذه بناتك سبايا وذريتك مقتلة يتشفى عليها».
انتهى بها الأمر الى بيت عبدالله بن زياد... أي دار الامارة امارة الكوفة وهناك جرى مشهد تقشعر له الأبدان، اذ أحضر رؤوس القتلى، وأخذ ينكش بقضيب بين ثنيتي الامام الحسين، فاحتج عليه زيد بن الأرقم.
تقدمت السيدة زينب في مهابة... جلست قبل أن يؤذن لها، وعندما سأل ابن زياد: من تكون؟
لم تجب.
أعاد السؤال مرتين وثلاثا وهي صامتة في كبرياء الحزن الرفيع، احتقارا له واستصغارا لشأنه، أجابت خادمة لها عنها:
«هذه زينب ابنة فاطمة....»
قال ابن زياد وقد غاظه ما كان منها:
«الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم»
فردت عليه بشجاعة، غير هيابة:
«الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه صلى الله عليه وآله، وطهرنا من الرجس تطهيرا، لا كما تقول أنت، انما يفضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله».
حوار مؤلم بلغ ذروته عندما لمح بنظره علي بن الحسين، فأنكر بقاءه حيا، فأمر به «ابن زياد» أن يقتل، فاعتنقته عمته «زينب» وهي تقول: يا ابن زياد... حسبك منا، أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحدا.
انحنت على الغلام واحتضنته، فإما أن يدع الغلام أو فيقتلهما معا، عندئذ قال ابن زياد لصحبه:
«عجبا للرحم والله اني لأظنها ودّت لو أن أقتلها معه، دعوا الغلام ينطلق مع نسائه».
أمر بتقييد يدي علي زين العابدين بن سيدنا الحسين، تحتفظ مصادر التاريخ الكبرى بوصف ركب السبايا الذي سيق الى دمشق، حيث وصلوا الى بلاط «يزيد بن معاوية»... تقول بعض المصادر انه عندما رأى رأس الحسين... دمعت عيناه، وقال «قد كنت أرضى من طاعتكم بما دون قتل الحسين... لعن الله ابن مرجانة».
ثم أمر بادخال الأسرى والسبايا ودار بينه وبين السيدة زينب... حديث طويل أتمته أم هاشم، بقولها:
«أظننت يا يزيد أن حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكتاف السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى، أن بنا هوانا على الله، وأن بك عليه كرامة؟ ان الله أَملَّك فهو قوله «ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين».
أمر يزيد بن معاوية بترحيل زينب وأهلها الى المدينة المنورة، لكنها لم تستقر طويلا بالمدينة المنورة، مجرد وجودها كان يلهب المشاعر، ويخيف بني أمية، طلب منها والي المدينة أن تخرج الى أي جهة تشاء الاقامة بها، فاختارت السيدة زينب مصر، ورحلت اليها، فوصلتها في شعبان عام واحد وستين من الهجرة.
واستقبلت مصر أم هاشم - كما يليق بها - فتفاصيل ما جرى كانت معروفة عند القوم، وتأهب المصريون لاستقبال رمز الأمومة والتضحية والشجاعة، حفيدة رسول الله «صلى الله عليه وسلم».
خرج الآلاف الى حدود مصر يتقدمهم مسلمة بن مخلد الأنصاري... والي مصر، صحبها ركب مهيب، وهكذا كانت هي أول من يخطو بقدميها الشريفتين وبصحبتها علي زين العابدين... ابن سيدنا ومولانا الحسين من الفئة الطاهرة تراب مصر، أنزلها المصريون مكانا عليا، ليس في المكان فحسب، انما في قلوبهم وضمائرهم.
أقامت في بهو الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري بالفسطاط حوالي العام، حتى أسلمت روحها الى بارئها، ودفنت حيث مرقدها الآن، ولكنها بالنسبة للمصريين أقامت في قلوبهم، يفنى قلب فيقوم مرقدها في قلب آخر، وشيئا فشيئا أصبحت مركزا مشعا للطمأنينة، والحماية، وأمّا للعاجزين، وملاذا للمساكين، المستضعفين.
هذا ما يجب أن نعرفه ونلم به... قبل أن نلج مسجدها لنؤدي فروض الزيارة.
***
ما بين قيام الوزير العثماني علي باشا سنة 956 هجرية... بتعمير المرقد، وما بين الزمن الحالي الذي نعيش فيه تمت عدة عمليات لتعمير وتوسعة المسجد... آخرها ما تم انجازه خلال العام 1421 هجرية، وما بين القرن العاشر، وبداية القرن الحادي والعشرين يمكن القول ان المرقد والمسجد... تضاعفا عدة مرات، كان خليج القاهرة يمر بالميدان حتى بداية القرن التاسع عشر، وكان المكان قبل ذلك يعرف بقناطر السباع.
اذ كانت توجد قنطرة فوق الخليج، تحمل شارة الظاهر بيبرس البندقداري... وهي عبارة عن أسد، مع ردم الخليج اختفت القنطرة، واتسع الميدان، وخلال توسعة الميدان تم اكتشاف واجهة جامع السيدة زينب الذي جدده علي باشا، ثم أعاد تجديده الأمير عبدالرحمن كتخدا... ومنذ هذه اللحظة بدأ المكان كله يعرف بميدان السيدة زينب.
في سنة 1940 ميلادية من القرن الماضي، أقامت وزارة الأوقاف المصرية المسجد الموجود حاليا، ويتكون من سبعة أروقة موازية للقبلة، يتوسطها صحن مربع، مغطى بقبة، تقابلها قبة أخرى تحتها ضريح السيدة زينب، ويوجد ضريح لسيدي العتريس، شقيق سيدي ابراهيم الدسوقي، والشيخ ابراهيم عبدالرحمن العيدروس... في سنة 1969 ميلادية، تمت توسعة المسجد، وأضيفت اليه ساحة توازي المساحة الأصلية، وتبدو هذه الاضافة كأنها مسجد قائم بذاته، لذلك أقيم به محراب، مع الابقاء على المحراب القديم.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة أضيفت مساحة فسيحة الى المسجد... بحيث أصبح ضعف حجمه الذي كان عليه بعد توسعة العام 1969، وقد روعي في جميع الاضافات أن تكون مماثلة للبناء الأصلي، وقد أهدت طائفة البهرة مقصورة من الفضة مكتوبا عليها آيات قرآنية بالذهب الخالص... لتحيط مرقد عقيلة بني هاشم، أو كما يعرفها المصريون «أم هاشم»، نصيرة الضعفاء وملاذهم من كل ظلم وجور.