كاتبة من طراز مختلف... صارخة وصامتة في آن واحد (2 من 2)
حوار / غادة السمان لـ «الراي»: نحن الذين ندمّر المحطات ونقوم بتفجير السكك إلى المستقبل!
1 يناير 1970
01:53 ص
| بيروت - من إسماعيل فقيه |
تواصل الكاتبة غادة السمّان- عبر هذه المساحة- حديثها الشيق عن مشوارها الإبداعي، وهي التي تعيش الكتابة كما الحب، من الوريد الى الوريد. ودورتها الدموية من الحبر. هكذا بدأت واستمرت وما زالت تعيش على حافة البقاء متسلّحة بنبض القلب والقلم. لأنها كاتبة من طراز مختلف وتحافظ على وتيرة النبض الذي يدفع الكلام الى العلن والنور، كان لا بدّ من محاورتها والتعرّف على واقع المرحلة التي تعيشها اليوم، بعد ظروف الحياة والايام التي عبرتها. ماذا قالت لـ «الراي»؟
• تعيشين في الغرب اليوم ومنذ سنوات، كيف تنظرين الى العرب ومواقعهم من منظارك البعيد؟
- لا أتطلع الى «العرب» بالمنظار البعيد، ولست من فصيلة اخرى، فأنا عربية حتى قاعي، رغم حياتي في الغرب طويلاً. لا انظر اليهم من منظاري البعيد مثل كائن فضائي يرقب مخلوقات الارض. وبالمقابل ولأنني اعيش بعيدة نسبياً عن الهذيان اليومي، فذلك البعد يتيح لي نظرة هادئة، وواقعنا ويا للأسف لا يبشر بالكثير من الخير، وعرافتي اللعينة في روايتي الاخيرة «سهرة تنكرية للموتى» أحزنتني بنبوءاتها غير السارة.
• هل تأخر العرب كثيراً، فاتهم قطار الحداثة والحضارة؟
- لا ادري كيف سنعود الى المستقبل بعدما توغلنا هكذا في الجانب المظلم من الماضي. لكن القطار لا يفوت احداً. المهم ان ننتبه ونصحو. وبوسعنا صنع قطار الحداثة والحضارة في اي لحظة وبسرعة خارقة تشبه سرعتنا في التدمير. المهم النية وحسن الاختيار. لا لم يفتنا القطار، نحن الذين ندمر المحطات ونقوم بتفجير السكك الى المستقبل.
• هل يمكن لغادة العودة الى طفولتها، استحضار البدايات التي اسست لحضورها اليوم؟
- طفولتي عادية وليس فيها ما يميزها. انها كطفولة اي بنت عربية منتمية لبيت جدها في دمشق العتيقة خلف الجامع الاموي. او اي مدينة عربية اخرى. حضوري اليوم جزء من عراقة ما انتهي اليه وما اغتني عبره بالرحيل والتعارف مع الحضارات الاخرى.
• ما المراحل والعناصر التي نبتت في طفولتك، ودفعتك الى التالي الذي تجذّر في ذاتك؟
- أنا الآن في طريقي الى واحدة من مدني الغربية المفضلة «فيينا» وسأزور من جديد بيت «فرويد» فلعل الجواب عن سؤالك هذا عنده.
• غياب الأحبة، أحبة غادة، كيف يتعرى هذا الغياب في ساحة حضورك؟
- لقد تجذر في ذاتي الشعور بأن عليّ الاعتماد على نفسي في كل لحظة، وعدم الخوف من الحضور وحيدة عارية من الحمايات التقليدية والعائلية والرسمية والمؤسساتية مثل طفلة تمشي داخل لوحات الفنان «ري فيديكو» بشوارعها الرمادية الشبحية الخاوية.
• غياب زوجك بشير الداعوق، كيف اثر في دورتك الدموية، وهل هو غياب كبقية الغيابات؟
- غياب بشير الداعوق- رغم المكابرة- ليس غياباً عادياً انه غياب أليم على نحو موجع لانه كان- اي بشير الداعوق - استثنائي بمعاني الكلمة كلها. كان اولاً رائعاً كانسان ثم انه اهداني الحب والحرية والمال ولم يطلب مقابل ذلك غير ان اكتب. وكان مغرماً بأبجديتي. حليفاً وصديقاً بلا تحفظ ويرفض ان اهدر وقتي في المهارات البيتية مثل الطبخ، الترتيب، تلبية الواجبات الاجتماعية، لم يكن يحب غير ان اكتب وضمن شرطي الابداعي.
• كيف تصفين لحظات حضوركما في الحياة الزوجية؟
- أهذه هي الحياة الزوجية؟ لا ادري. انه حلم رائع عمره يقارب اربعة عقود، عشته مع بشير الداعوق حيث لم يكن الحب مرادفا لحب التملك.
• ماذا يعني لك ابنك ابنكما؟
- ابننا د. حازم انسان مستقل، هكذا رأيناه دائماً ولم يخطر في بالنا يوماً ومنذ ولادته غير انه ابن حريته وخياراته وزمانه وليس ملكاً لنا لمجرد اننا انجبناه. احب حازم ليس فقط لانه ابني، بل انه رجل رائع.
اراك تبتسم، فهذا ما تقوله الامهات كلهن، ولم لا؟ هل تعرف امرأة عربية لا ترى ابنها غزالا؟
• الشوق مفتوح على مداه، فاذا كان هذا الشوق هو النافذة في ايامك، فعلى اي مساحات تطل هذه النافذة؟
- الشوق الى لحظة فرح في عالمي العربي.
• هل تخافين الموت، لماذا؟
- بلا مواربة، لا أتطلع اليه بشوق، ربما لأنني اعرف انه سيقرع بابي بالتأكيد، ما جدوى ان أخافه او أحبه او أنادمه او اختبئ منه. انه ات لا محالة وحين يحلو له ولا مناص من ذلك الموعد الغرامي الارغامي، انه الحبيب الوحيد الذي يحدد المواعيد ولا نستطيع رفض نزواته.
• متى تموت غادة (عذراً على السؤال)؟
- لقد مت مرات عديدة، وعشت التمارين على الموت كلها، فلا تعتذر عن السؤال الوحيد الذي يحق لك ان تطرحه. فالحقيقة الاكيدة في كوكبنا هي اننا سنموت جميعاً، ولحظة ولادتنا تعني ببساطة لحظة موتنا المولجة قليلاً او كثيراً. متى الموت؟ هذا علمه عند الخالق، اما عن الموت الحميم فقد مارسته ومراراً ولذا تعلمت فن الحياة. وما من كاتب لم يجرب الموت اكثر من مرة ولو الموت قليلاً.
• متى تعود غادة الى المدينة التي احبتها، ام ان الاستقرار هو الذي يولد ويضاعف الحب للمكان؟ كأن العودة نهاية؟
- الاستقرار عاصفة حب تعيدني الى حيث تهب رياح قلبي. في احلامي وكوابيسي وحروفي كل ليلة اعود الى كل ما أحببت ومن أحببت والموت يتضاءل امام ارادة الحياة مع البدايات لا النهايات بالضرورة. الاستقرار عشبة تنعش الحب لمن غاب عن العين والبصر وأقام في البصيرة والقلب.
• أمازال في العمر متسع للعيش اللذيذ؟
- بالتأكيد، و«الزمن الجميل» هو الآن في كل زمان والكتابة جزء من العيش اللذيذ. وهو ما افعله الآن وانا اكتب، ليس هناك سعادة مقطرة، والحزن سطور دائمة على هامش ما يدعى العيش اللذيذ.
• ماذا تقولين للانسان الذي يحكم ويلغي شقيقه الانسان باسم السلطة او الحكم او العدل؟
- استعيد ذكرى قابيل وهابيل، كم أجفف دموعي بسرعة وأضم الى قلبي اخوة الابجدية، اعنى المبدعات والمبدعين الحقيقيين لا فئة «البدون» الذين يستولون الشهرة بأي ذريعة.
• من القاضي الذي يسمح للانسان بالحياة او الموت؟
- الروائي يقتل من يشاء من ابطاله دونما الكثير من الحس بالذنب احياناً. اما على الصعيد اليومي في تاريخ كوكبنا، فهو حامل السلاح للأسف.
• ماذا تقولين للمرأة العربية في ظل تعثر خطواتها نحو الرقي والحضارة، وهل يتحمل الرجل السبب في هذه العثرات؟
- لا اقول لها شيئاً فأنا امقت النصائح، والرجل العربي لا يتحمل وحده هذه العثرات فهو ايضاً مثلنا يعاني تعثر خطواته نحو الحرية والرقي والحضارة. القضية ليست رجلاً جلاداً وامرأة مظلومة بل هي ويا للأسف ابعد غوراً من ذلك، انها ببساطة حاجة الانسان العربي للتطور من دون التنكر لماضيه ولا لمستقبله، في كوكب سبقه في بعض القارات الى التطور على الصعيد الانساني.
• ماذا تقرأ غادة اليوم، ما الكتاب الذي جعلك تقفين او تستيقظين بقسوة؟
- كثيرة هي الكتب التي توقظني وتنعشني، نهر العطاء لا يتوقف، المهم أنا حية، وهو ما أحرض عليه.
• هل جيل اليوم وتحديداً الصبايا يقرأن بيروت كما قرأتها غادة؟
- ولماذا الصبايا بالذات لا الشباب أيضاً؟ هذا اولاً. وثانياً أتمنى ألا يقرأ أحد بيروت كما قرأتها أنا، فالابداع قراءة جديدة بعين مختلفة عصرية، وليس ثمة ما يسعدني كالابداع المتطور الجديد، ولذا أكتب باستمرار وباحتفاء وفرح عن الأقلام الجديدة المبدعة.
• البومة هذا الطير الذي حضر في مسيرتك الكتابية، أما زال يبث الشعور نفسه في أيامك؟
- البوم صديقي دائماً وأخطو هذه السطور وأمامي وورائي وحولي اكثر من 500 بومة جميلة تلقي التحية على نهر السين وبرج ايفل خلف نافذتي. وأتحسس بحزن مئات البوم التي اهداها الادباء الاحباء لي. على جناح كل بومة سجلت اسم صاحبها وتاريخ الهدية لكن معظمهم رحل، وتظل اجمل بوماتي تلك البومات الثمينة التي اهداني اياها بشير الداعوق. تماثيل البوم في بيتي تستيقظ بعدما أنام وتتحاور وتطير وتعيش حياتها السرية ثم تعود الى اماكنها حيث انهض لقوة الصباح. انها مثلي تحب الاسرار.
• التكنولوجيا في حياة غادة اليوم، كيف تنمو، هل اخذ بالكمبيوترا مكان القلم والورقة؟
- التكنولوجيا نعمة على حرفي حيث تباع كتبي المترجمة الى خمس عشرة لغة على الانترنت ويجد القارئ معظم تلك الترجمات على مواقع عديدة منها موقع «امازون» هذا الى جانب صديقات واصدقاء لحرفي قاموا بتأسيس منبر الكتروني لي على موقع «فيس بوك» بعنوان ترجمته العربية «كاتبة ذات طبقات متعددة» وفوجئت حين وصلتني عبر ذلك الموقع عشرات التعازي من محبي حرفي، وقت رحيل بشير الداعوق وهزني ذلك كثيراً لكنني ويا للأسف لا استطيع الكتابة على الكمبيوتر مباشرة بدلاً من القلم والورقة، لان طبيب العيون منعني من معاقرة الشاشة المضيئة للكمبيوتر لحساسية في عيني من الضوء الساطع ككل شعوب اليوم.
• سؤال أخير أترك لك تحديده والاجابة عنه وإذا أردت أكثر من سؤال لا مانع عندي؟
- السؤال هو: لماذا اجبت يا غادة على كل ما تقدم من اسئلة؟ والاجابة: لأنني عاجزة عن رفض لحظة تواصل ودية ابجدية. انها عادة أخرى سيئة من عاداتي.