عام مرّ على اغتيال «اللغز» الذي تتبعه 40 جهاز استخبارات
من قتل عماد مغنية؟
عماد مغنية والسيد حسن نصرالله
عماد مغنية
علي موسى دقدوق
من الصور النادرة التي التقطت لموقع الانفجار الذي تعرض إليه مغنية
قلة فقط من خارج وكالات التجسس الدولية أبدت الاهتمام باعتقال علي موسى دقدوق من كبار قسم «عمليات الخارج» في «حزب الله». دقدوق ضبط بالصدفة على أيدي قوات الأمن العراقية بجانب المركز الشيعي في كربلاء في شهر يناير العام الماضي. بعد تحقيق سريع معه سلم لمحققي الاستخبارات الأميركيين وهؤلاء عرفوا كيف يقدرون جيداً الغنيمة التي سقطت في أيديهم: هذا الرجل يعتبر من الأشخاص الذين رعاهم كبير المخربين عماد مغنية، والذي كان الأميركيون قد أعلنوا عن جائزة بقيمة 25 مليون دولار مقابل رأسه. في عام 2005 أُرسل دقدوق بطلب من مغنية من لبنان إلى طهران، وبعد عام تسلل من هناك بأمر من معلمه إلى العراق حتى يدرب «جيش المهدي» - احدى الوحدات المختارة للشيعة في الدولة - من أجل تنفيذ عمليات ضد جنود الجيش الأميركي.
دقدوق رفض التعاون مع المحققين الأميركيين. في البداية تصنع أنه أصم وطلب الرحمة. وثائقه كانت مزيفة وأظهر نفسه على أنه من أبناء المكان. في مرحلة متأخرة حاول الادعاء بأنه رجل أعمال إيراني. فقط بعد ثلاثة أسابيع انهار عندما بدأ يغرد على مسامع المحققين اتضح لهم أنه كنز بقيمة استخباراتية نادرة، فهذا الرجل رسم صورة حديثة لـ «الحاج رضوان» أحد أسماء الشيفرة للإرهاب الذي نجح في التملص من وكالات الاستخبارات في أرجاء العالم طوال عشرات الأعوام وتضليلهم (40 وكالة استخبارات).
دقدوق ذكر أرقام هواتف مغنية النقالة التي كان يستخدمها في أحيان نادرة وأسماء الروابط والرسل المؤتمنين والمقربين لـ «أبو دوحان»، وهو اسم سري آخر لمغنية. هذه الغنيمة الاستخبارية أُعطيت لـ «يديعوت أحرونوت» من قبل ضابط مخضرم بالاستخبارات اللبنانية كان قد وكل بتحليل ظروف اغتيال مغنية قبل عام ووصل من المخابرات الأميركية إلى الموساد الإسرائيلي. كان هناك تماثل واضح في المصالح: الأميركيون أرادوا تصفية مغنية، والإسرائيليون تشوقوا لتسوية الحساب الطويل معه.
«لاحقت مغنية طوال خمسة عشر عاماً»، قال لي أحد موظفي «سي آي إيه» السابقين روبرت بار. وأضاف: «سرت في أثره ولم أتوقف عن البحث عن المعلومات ولكنني لم أنجح في الاقتراب منه. هو كان مهنياً ومراوغاً. لم يعقد أبدا لقاء في مكان لا يوجد به مدخلان على الأقل وحرص دائماً على إزالة كل ورقة وصورة». اليوم بعد عام من تصفيته يتضح أن الاستخبارات اللبنانية كانت تتابع تحركات «الحاج رضوان» هي الأخرى.
مغنية تصرف كمن يعرف أن رئيس الموساد مائير داغان لا ينوي تركه في حاله، خصوصاً في ظل حقيقة أن إسرائيل تمتلك معلومات في شأن ضلوعه في اختطاف جنود الجيش الإسرائيلي في العملية الأخيرة، وأنه تابع عن قرب تحضيرات للعملية، بل وتواجد في موقع المراقبة القريب من مكان الاختطاف. مغنية الذي كان يبلغ من العمر 47 عاماً عند تصفيته تدرب في القوة 17 التابعة لعرفات في لبنان، إذ تنقل بين التنظيمات الفلسطينية إلى أن انضم إلى «حزب الله» وهناك أوجد لنفسه قناة اتصال مباشرة مع أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية. صديقه المقرب في بيروت أ. ش يدعي انه لو كان الخيار بيد مغنية لبقي في إيران وتحرك بصورة سرية نحو لبنان في أحيان متباعدة حتى يعطي الأوامر والإرشادات للتابعين لإمرته في طاقم عمليات الخارج في «حزب الله». خلال العام الأخير من عمره لاحظ الذين تبادلوا أطراف الحديث معه خوفاً تطور إلى استحواذ من أن المخابرات السورية ستبيعه مقابل فتح صفحة جديدة مع الإدارة في واشنطن. لذلك حرص على البقاء في سورية كمحطة انتقالية بين طهران وجنوب لبنان وحذر من التوجه إلى بيروت. وبالأساس حافظ على مسافة من الجنرال آصف شوكت صهر بشار الأسد و«الرجل القوي» في دمشق.
أحد المسؤولين الكبار جداً في النظام السوري عرف أن أتباع مغنية قد وزعوا تبرعات إيرانية بمئات آلاف الدولارات على معارضيه وعلم بوجود تحويلات مالية من طهران بواسطة مغنية ومبعوثيه أيضاً إلى أتباع رئبال ابن رفعت الأسد المنفي في اسبانيا. قبل التصفية بشهر اشتكى مغنية أمام أحد أصدقائه من أنه «في كل مرة أدخل فيها إلى سورية أشعر بوجود تحركات خطيرة من حولي وأسعى إلى تقصير مدة بقائي».
في الثاني عشر من فبراير 2008 حدث الخطأ الذي كلف مغنية حياته. عدد كبير من الأشخاص عرف بخطته لتكريم السفير الإيراني الجديد في دمشق وإظهار حضوره ولو لفترة زمنية تبلغ 20 دقيقة في حفل الاستقبال الذي أُقيم لإحياء الذكرى التاسعة والعشرين للثورة الإسلامية في إيران.
مراقبته جرت بواسطة تصميم صورة لسلوكه والجدول الزمني المخطط. هو قضى الليلة التي سبقت اغتياله في شقة خفية مع امرأة، على ما يبدو، وحتى يمنع الأقاويل فضل ألا يكون حراسه وسائقه الشخصي قريبين. مغنية قاد سيارة الجيب الفضية بنفسه وحصل مرافقوه على ساعات إجازة عدة. هذا كان الوقت الصحيح الملائم للاستعداد لعملية الاغتيال. مخططو العملية عرفوا أن أمامهم فترة زمنية قصيرة قبل انضمام المرافقين له.
الأيادي التي زرعت العبوة الناسفة في مسند الرأس في مقعد المسافر على يمين السائق كانت أيادٍ إسرائيلية أيادي. «عندما يتعلق الأمر بهدف سمين إلى هذا الحد يحظر الاعتماد على أي طرف أجنبي. هناك دائماً خشية من تسرب المعلومات، ولذلك لم يكونوا ليخاطروا بالخطة كلها»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني.
أما قضية كيفية وصول تلك الأيادي إلى المكان الذي توقف فيه جيب الباجيرو الفضي، فالاستخبارات اللبنانية لا تملك رداً قاطعاً على ذلك. «لدينا براهين على أن الطاقم الفني قد تسلل إلى الأراضي السورية من كردستان بثلاث سيارات»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني. ويضيف: «في السيارة الأولى سافر الحراس وخلية الإسناد، وفي السيارة الثانية جلس الفنيون المسؤولون عن العبوة، والثالثة خصصت للفرار في حال حدوث خلل». ليس الفنيون المدربون في زرع العبوات وحدهم إسرائيليين وإنما أيضاً السائقون ذوو الشوارب الناطقون بالعربية. ولكن هناك أيضاً براهين، كما يقول الضابط اللبناني تشير إلى أن طاقم التصفية قد قدم إلى سورية من مكان أقرب وليس بالتحديد من الحدود العراقية: «عندما تحرص مجموعة مهنية في إظهار نفسها كأبناء المكان وتتبنى سلوكهم، يمكن اجتياز الحدود السورية في أماكن محددة مسبقاً».
بعد أن لاحظوا سيارة الجيب المتوقفة من دون حراسة قام الفنيون بفتح أحد أبوابها وبدأوا في زرع العبوة في مسند الرأس. أخرجوا المسند من مكانه ووضعوا بدلاً منه مسنداً مشابهاً مفخخاً. وعندما أنهوا عملهم غادروا المكان بسرعة عائدين من خلال مسار بديل محدد مسبقاً. «هذه قاعدة أساسية في عمليات الاغتيال»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني.
في الثاني عشر من فبراير في الساعة 9:40 توقف جيب الباجيرو الفضي في المنطقة الأمنية في حي كفرسوسة. رئيس خلية الحراسة لاحظ على الفور الرجل السمين الملتحي الذي يجلس إلى يمين السائق المرافق. هو عرف بقدومه مسبقاً. مغنية خرج من السيارة ودخل إلى مركز الثقافة الإيراني. كعادته كان مزوداً بمسدس.
قبل أن يغادر السيارة أمر السائق بعدم الابتعاد. ضابط الاستخبارات اللبناني يشير إلى بديلين محتملين في إعداد عملية التصفية الممركزة كان من الممكن أن تحصل، كما يقدر زرع عبوة قاتلة في مسند الرأس مع ساعة توقيت تشغل العبوة في توقيت دقيق، عندما يخرج مغنية من حفل الاستقبال. ولكن هذا الأمر ينطوي على خطورة لتغيير البرامج في اللحظة الأخيرة. الإمكانية الأكثر منطقية، كما يقول الضابط اللبناني، كانت تشغيل العبوة عن بعد من أجل ضمان عدم الوقوع في أخطاء.
في الساعة 22:35 هز انفجار شديد جنبات حي كفرسوسة. شهود عيان تحدثوا عن أعمدة دخان ارتفعت إلى مسافة عالية. الجيران والمارة سارعوا إلى تصوير ساحة الحدث بهواتفهم النقالة لم يعرف أحد منهم لمن تعود أشلاء الشخص الذي كان جالساً في المقعد الأمامي.
مغنية مات على الفور. القناة السورية الرسمية نشرت في منتصف الليل نبأ أملته السلطات عن انفجار هائل يعتقد أنه عملية تخريبية أدى إلى موت المسافرين في السيارة في كفرسوسة. في صبيحة اليوم التالي قال «حزب الله»: «إن شخصاً واحداً قد قتل وأنها عملية اغتيال نفذها الموساد الإسرائيلي». آثار السائق اختفت. «خلال أشهر طوال كنا نعتقد أن السائق مشارك في عملية التصفية»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني. ويضيف: «كنا نظن أن الموساد قد نجح في شرائه. أرسلنا أشخاصاً لجمع معلومات من أبناء عائلته في إحدى قرى الجنوب اللبناني فاكتشفنا أن العائلة قد اختفت وأن البيت مهجور. ولكن (يقول الضابط متحفظاً) من كان يعرف مغنية الشكاك جيداً يمكنه أن يقدر مسبقاً أنه لو لم يكن السائق منتظراً داخل السيارة المفخخة لما كان مغنية يدخل إليها بأي شكل من الأشكال».
كان بإمكان سماع دوي الانفجار من القصر الرئاسي السوري على مسافة كيلومتر واحد من الحدث. النظام السوري تلقى تقريراً مستعجلاً عن تصفية مغنية وأُحيطت منطقة كفرسوسة على الفور بكتائب الحراس والجنود. الصحافيون والمصورون طردوا من المكان. الإشاعات التي ثارت حول ظروف الحدث وهوية الضحية وصلت إلى طهران وإلى قيادة «حزب الله» في بيروت. نصرالله الذي غضب من عدم قيام دمشق بإعلامه الخبر أمر محطة «المنار» ببث النبأ عن التصفية التي حصلت في دمشق في صبيحة اليوم التالي وكشف هوية مغنية وإصلاح الانطباع الذي تركته التقارير الرسمية الصادرة من دمشق. نصر الله كان أيضاً أول من ادعى أن الموساد هو الذي اغتال مغنية بالتعاون مع جهاز استخبارات بدولة عربية.
وزيرا الداخلية والإعلام في سورية والمدعي العام العسكري في دمشق أعلنوا عن إقامة لجنة تحقيق تعمل على مدار الساعة. ولكن ضابط الاستخبارات اللبناني الذي أجرى التحقيق السري وسأل شهود العيان يدعي أن السوريين ركزوا بالأساس على طمس الأدلة. المحققون السوريون لم يزوروا منازل سكان الحي لجمع الأدلة. السلطات في دمشق لم تأمر بإغلاق النقطة الحدودية مع كردستان، وتجديد التفتيش على المارة من سورية إلى الأردن صبيحة عملية الاغتيال. النظام أمر بنقل بقايا جثة مغنية للدفن في لبنان بضغط من «حزب الله» من دون أن يقوم المحققون بإجراء فحوصاتهم الجنائية لتشخيص المواد المتفجرة المستخدمة.
محللون وخبراء ادعوا أن النظام السوري يخشى من أذرع الموساد الطويلة. ولكن وفقاً لإحدى الروايات التي ظهرت في وثائق الاستخبارات اللبنانية فإن آصف شوكت ومن معه فرحوا جداً للتخلص من وجع الرأس الذي يُسمى مغنية. «أنا لا أستطيع الإشارة إلى أن في سورية طرفاً عرف أو تعاون مع العملية»، يقول الضابط اللبناني. ويضيف: «...وأنا أيضاً لا اعتقد أن الموساد كان سيشرك أي جهاز استخبارات آخر باستثناء الأميركيين في الخطط المعدة للعملية. من خطط للعملية لم يقم فقط بتسوية دين إسرائيلي أميركي ثقيل، وإنما وجه كذلك صفعة مدوية ثلاثية الأولى للنظام السوري الذي علم مرة أخرى أنه من الممكن التحرك بحرية في الأراضي السورية والثانية لرؤساء الاستخبارات الإيرانيين وخامنئي والثالثة لنصرالله الذي لم ينجح حتى اليوم في إيجاد خليفة لكبير القتلى».
في طهران و«حزب الله» قرروا عدم ترك السوريين في حالهم. وفد من خبراء الاستخبارات الكبار الإيرانيين ووفد من «حزب الله» في لبنان ظهر في الوقت نفسه في دمشق. «جئنا للمشاركة في التحقيق والمساعدة»، قالوا. السوريون استقبلوهم ببرود، وقالوا لم نطلب منكم المجيء، فنحن نجري التحقيق بأنفسنا. المدعي العسكري السوري طالبهم بمغادرة المكان فوراً. وهذا المدعي بالمناسبة أصر أيضاً على أن سائق مغنية قد قتل في عملية الاغتيال. زوجة مغنية سعدى بدر الدين وقفت أمام عدسات التلفاز في بيت العزاء في إحدى قرى لبنان: «أنا أعرف من الذي اغتال الشيخ رضوان: الاستخبارات السورية والموساد، مخابرات دولة عربية أخرى، وجلال طالباني، الرئيس العراقي الكردي»، قالت بغضب وهي ترتدي الأسود ومحاطة بابنتيها. في الليلة نفسها وضعت الأرملة وأبناؤها في قافلة سيارات تابعة لـ«حزب الله» وأُرسلت إلى إيران مسقط رأس بدر الدين. صوتها لم يسمع منذ ذلك الحين.
النظام السوري تعهد بإنهاء عملية التحقيق في اغتيال مغنية خلال عشرة أيام ونشر النتائج «التي ستفاجئ العالم». المدعي العام العسكري في دمشق سرب لوسائل الإعلام معلومات مبهمة عن اعتقال عشرات الفلسطينيين «المتهمين بالتعاون وتقديم المساعدة». ضابط الاستخبارات اللبناني يقول إن أحداً لم يعتقل وفقاً للمعلومات، وحتى إن اعتقل عدد من الفلسطينيين في سورية فقد أُطلق سراحهم بعد مدة قصيرة. مضى أسبوعان آخران وفي هذه المرة تعهدت سورية بنشر نتائج التحقيق بعد القمة العربية في دمشق. محللون وناطقون رسميون سوريون أوضحوا أن النظام لا يريد تصعيد العلاقات مع تلك الأطراف العربية التي أمدت المخططين لعملية التصفية بالمعلومات الاستخباراتية عن تحركات مغنية. هم أطلقوا تلميحات قوية باتجاه إحدى سفارات الدول الخليجية في سورية واستخبارات هذه الدولة. اسم الأردن زج هو الآخر في القضية باعتباره قد ساعد وأسهم في إعطاء المعلومات.
يوم الخميس المقبل ستحل الذكرى الأولى لاغتيال مغنية. في إسرائيل يخشون عدم اكتفاء «حزب الله» في هذه المرة بتظاهرة إحياء وخطابات حماسية. نصر الله وعد بالانتقام الشديد والمدوي. الاستخبارات الإسرائيلية تحذر من عملية انتقامية مشتركة لـ«حزب الله» والوحدات المختارة الاستخباراتية الإيرانية من دون ترك بصمات لأصابعهم. طرف استخباراتي يحذر من عملية استعراضية كثيرة الضحايا ضد هدف إسرائيلي من مكان منعزل نسبياً في الخارج. ووفقاً لمعلومات اجنبية قد تم حتى الآن احباط محاولة شن هجوم على سفارة إسرائيل في أذربيجان. وفي سيناء ضبط المواطن اللبناني سامي شهاب عنصر قسم عمليات الخارج في «حزب الله» الذي درب خلية إرهابية فلسطينية لاختطاف وقتل الإسرائيليين. حتى الآن أدت اليقظة الأمنية إلى إحباط الخطة الانتقامية. ولكن «حزب الله» والإيرانيون كما تجمع الجهات الاستخباراتية كلها لا ينوون التنازل.
سمدار بيري
«يديعوت أحرونوت»
دقدوق رفض التعاون مع المحققين الأميركيين. في البداية تصنع أنه أصم وطلب الرحمة. وثائقه كانت مزيفة وأظهر نفسه على أنه من أبناء المكان. في مرحلة متأخرة حاول الادعاء بأنه رجل أعمال إيراني. فقط بعد ثلاثة أسابيع انهار عندما بدأ يغرد على مسامع المحققين اتضح لهم أنه كنز بقيمة استخباراتية نادرة، فهذا الرجل رسم صورة حديثة لـ «الحاج رضوان» أحد أسماء الشيفرة للإرهاب الذي نجح في التملص من وكالات الاستخبارات في أرجاء العالم طوال عشرات الأعوام وتضليلهم (40 وكالة استخبارات).
دقدوق ذكر أرقام هواتف مغنية النقالة التي كان يستخدمها في أحيان نادرة وأسماء الروابط والرسل المؤتمنين والمقربين لـ «أبو دوحان»، وهو اسم سري آخر لمغنية. هذه الغنيمة الاستخبارية أُعطيت لـ «يديعوت أحرونوت» من قبل ضابط مخضرم بالاستخبارات اللبنانية كان قد وكل بتحليل ظروف اغتيال مغنية قبل عام ووصل من المخابرات الأميركية إلى الموساد الإسرائيلي. كان هناك تماثل واضح في المصالح: الأميركيون أرادوا تصفية مغنية، والإسرائيليون تشوقوا لتسوية الحساب الطويل معه.
«لاحقت مغنية طوال خمسة عشر عاماً»، قال لي أحد موظفي «سي آي إيه» السابقين روبرت بار. وأضاف: «سرت في أثره ولم أتوقف عن البحث عن المعلومات ولكنني لم أنجح في الاقتراب منه. هو كان مهنياً ومراوغاً. لم يعقد أبدا لقاء في مكان لا يوجد به مدخلان على الأقل وحرص دائماً على إزالة كل ورقة وصورة». اليوم بعد عام من تصفيته يتضح أن الاستخبارات اللبنانية كانت تتابع تحركات «الحاج رضوان» هي الأخرى.
مغنية تصرف كمن يعرف أن رئيس الموساد مائير داغان لا ينوي تركه في حاله، خصوصاً في ظل حقيقة أن إسرائيل تمتلك معلومات في شأن ضلوعه في اختطاف جنود الجيش الإسرائيلي في العملية الأخيرة، وأنه تابع عن قرب تحضيرات للعملية، بل وتواجد في موقع المراقبة القريب من مكان الاختطاف. مغنية الذي كان يبلغ من العمر 47 عاماً عند تصفيته تدرب في القوة 17 التابعة لعرفات في لبنان، إذ تنقل بين التنظيمات الفلسطينية إلى أن انضم إلى «حزب الله» وهناك أوجد لنفسه قناة اتصال مباشرة مع أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية. صديقه المقرب في بيروت أ. ش يدعي انه لو كان الخيار بيد مغنية لبقي في إيران وتحرك بصورة سرية نحو لبنان في أحيان متباعدة حتى يعطي الأوامر والإرشادات للتابعين لإمرته في طاقم عمليات الخارج في «حزب الله». خلال العام الأخير من عمره لاحظ الذين تبادلوا أطراف الحديث معه خوفاً تطور إلى استحواذ من أن المخابرات السورية ستبيعه مقابل فتح صفحة جديدة مع الإدارة في واشنطن. لذلك حرص على البقاء في سورية كمحطة انتقالية بين طهران وجنوب لبنان وحذر من التوجه إلى بيروت. وبالأساس حافظ على مسافة من الجنرال آصف شوكت صهر بشار الأسد و«الرجل القوي» في دمشق.
أحد المسؤولين الكبار جداً في النظام السوري عرف أن أتباع مغنية قد وزعوا تبرعات إيرانية بمئات آلاف الدولارات على معارضيه وعلم بوجود تحويلات مالية من طهران بواسطة مغنية ومبعوثيه أيضاً إلى أتباع رئبال ابن رفعت الأسد المنفي في اسبانيا. قبل التصفية بشهر اشتكى مغنية أمام أحد أصدقائه من أنه «في كل مرة أدخل فيها إلى سورية أشعر بوجود تحركات خطيرة من حولي وأسعى إلى تقصير مدة بقائي».
في الثاني عشر من فبراير 2008 حدث الخطأ الذي كلف مغنية حياته. عدد كبير من الأشخاص عرف بخطته لتكريم السفير الإيراني الجديد في دمشق وإظهار حضوره ولو لفترة زمنية تبلغ 20 دقيقة في حفل الاستقبال الذي أُقيم لإحياء الذكرى التاسعة والعشرين للثورة الإسلامية في إيران.
مراقبته جرت بواسطة تصميم صورة لسلوكه والجدول الزمني المخطط. هو قضى الليلة التي سبقت اغتياله في شقة خفية مع امرأة، على ما يبدو، وحتى يمنع الأقاويل فضل ألا يكون حراسه وسائقه الشخصي قريبين. مغنية قاد سيارة الجيب الفضية بنفسه وحصل مرافقوه على ساعات إجازة عدة. هذا كان الوقت الصحيح الملائم للاستعداد لعملية الاغتيال. مخططو العملية عرفوا أن أمامهم فترة زمنية قصيرة قبل انضمام المرافقين له.
الأيادي التي زرعت العبوة الناسفة في مسند الرأس في مقعد المسافر على يمين السائق كانت أيادٍ إسرائيلية أيادي. «عندما يتعلق الأمر بهدف سمين إلى هذا الحد يحظر الاعتماد على أي طرف أجنبي. هناك دائماً خشية من تسرب المعلومات، ولذلك لم يكونوا ليخاطروا بالخطة كلها»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني.
أما قضية كيفية وصول تلك الأيادي إلى المكان الذي توقف فيه جيب الباجيرو الفضي، فالاستخبارات اللبنانية لا تملك رداً قاطعاً على ذلك. «لدينا براهين على أن الطاقم الفني قد تسلل إلى الأراضي السورية من كردستان بثلاث سيارات»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني. ويضيف: «في السيارة الأولى سافر الحراس وخلية الإسناد، وفي السيارة الثانية جلس الفنيون المسؤولون عن العبوة، والثالثة خصصت للفرار في حال حدوث خلل». ليس الفنيون المدربون في زرع العبوات وحدهم إسرائيليين وإنما أيضاً السائقون ذوو الشوارب الناطقون بالعربية. ولكن هناك أيضاً براهين، كما يقول الضابط اللبناني تشير إلى أن طاقم التصفية قد قدم إلى سورية من مكان أقرب وليس بالتحديد من الحدود العراقية: «عندما تحرص مجموعة مهنية في إظهار نفسها كأبناء المكان وتتبنى سلوكهم، يمكن اجتياز الحدود السورية في أماكن محددة مسبقاً».
بعد أن لاحظوا سيارة الجيب المتوقفة من دون حراسة قام الفنيون بفتح أحد أبوابها وبدأوا في زرع العبوة في مسند الرأس. أخرجوا المسند من مكانه ووضعوا بدلاً منه مسنداً مشابهاً مفخخاً. وعندما أنهوا عملهم غادروا المكان بسرعة عائدين من خلال مسار بديل محدد مسبقاً. «هذه قاعدة أساسية في عمليات الاغتيال»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني.
في الثاني عشر من فبراير في الساعة 9:40 توقف جيب الباجيرو الفضي في المنطقة الأمنية في حي كفرسوسة. رئيس خلية الحراسة لاحظ على الفور الرجل السمين الملتحي الذي يجلس إلى يمين السائق المرافق. هو عرف بقدومه مسبقاً. مغنية خرج من السيارة ودخل إلى مركز الثقافة الإيراني. كعادته كان مزوداً بمسدس.
قبل أن يغادر السيارة أمر السائق بعدم الابتعاد. ضابط الاستخبارات اللبناني يشير إلى بديلين محتملين في إعداد عملية التصفية الممركزة كان من الممكن أن تحصل، كما يقدر زرع عبوة قاتلة في مسند الرأس مع ساعة توقيت تشغل العبوة في توقيت دقيق، عندما يخرج مغنية من حفل الاستقبال. ولكن هذا الأمر ينطوي على خطورة لتغيير البرامج في اللحظة الأخيرة. الإمكانية الأكثر منطقية، كما يقول الضابط اللبناني، كانت تشغيل العبوة عن بعد من أجل ضمان عدم الوقوع في أخطاء.
في الساعة 22:35 هز انفجار شديد جنبات حي كفرسوسة. شهود عيان تحدثوا عن أعمدة دخان ارتفعت إلى مسافة عالية. الجيران والمارة سارعوا إلى تصوير ساحة الحدث بهواتفهم النقالة لم يعرف أحد منهم لمن تعود أشلاء الشخص الذي كان جالساً في المقعد الأمامي.
مغنية مات على الفور. القناة السورية الرسمية نشرت في منتصف الليل نبأ أملته السلطات عن انفجار هائل يعتقد أنه عملية تخريبية أدى إلى موت المسافرين في السيارة في كفرسوسة. في صبيحة اليوم التالي قال «حزب الله»: «إن شخصاً واحداً قد قتل وأنها عملية اغتيال نفذها الموساد الإسرائيلي». آثار السائق اختفت. «خلال أشهر طوال كنا نعتقد أن السائق مشارك في عملية التصفية»، يقول ضابط الاستخبارات اللبناني. ويضيف: «كنا نظن أن الموساد قد نجح في شرائه. أرسلنا أشخاصاً لجمع معلومات من أبناء عائلته في إحدى قرى الجنوب اللبناني فاكتشفنا أن العائلة قد اختفت وأن البيت مهجور. ولكن (يقول الضابط متحفظاً) من كان يعرف مغنية الشكاك جيداً يمكنه أن يقدر مسبقاً أنه لو لم يكن السائق منتظراً داخل السيارة المفخخة لما كان مغنية يدخل إليها بأي شكل من الأشكال».
كان بإمكان سماع دوي الانفجار من القصر الرئاسي السوري على مسافة كيلومتر واحد من الحدث. النظام السوري تلقى تقريراً مستعجلاً عن تصفية مغنية وأُحيطت منطقة كفرسوسة على الفور بكتائب الحراس والجنود. الصحافيون والمصورون طردوا من المكان. الإشاعات التي ثارت حول ظروف الحدث وهوية الضحية وصلت إلى طهران وإلى قيادة «حزب الله» في بيروت. نصرالله الذي غضب من عدم قيام دمشق بإعلامه الخبر أمر محطة «المنار» ببث النبأ عن التصفية التي حصلت في دمشق في صبيحة اليوم التالي وكشف هوية مغنية وإصلاح الانطباع الذي تركته التقارير الرسمية الصادرة من دمشق. نصر الله كان أيضاً أول من ادعى أن الموساد هو الذي اغتال مغنية بالتعاون مع جهاز استخبارات بدولة عربية.
وزيرا الداخلية والإعلام في سورية والمدعي العام العسكري في دمشق أعلنوا عن إقامة لجنة تحقيق تعمل على مدار الساعة. ولكن ضابط الاستخبارات اللبناني الذي أجرى التحقيق السري وسأل شهود العيان يدعي أن السوريين ركزوا بالأساس على طمس الأدلة. المحققون السوريون لم يزوروا منازل سكان الحي لجمع الأدلة. السلطات في دمشق لم تأمر بإغلاق النقطة الحدودية مع كردستان، وتجديد التفتيش على المارة من سورية إلى الأردن صبيحة عملية الاغتيال. النظام أمر بنقل بقايا جثة مغنية للدفن في لبنان بضغط من «حزب الله» من دون أن يقوم المحققون بإجراء فحوصاتهم الجنائية لتشخيص المواد المتفجرة المستخدمة.
محللون وخبراء ادعوا أن النظام السوري يخشى من أذرع الموساد الطويلة. ولكن وفقاً لإحدى الروايات التي ظهرت في وثائق الاستخبارات اللبنانية فإن آصف شوكت ومن معه فرحوا جداً للتخلص من وجع الرأس الذي يُسمى مغنية. «أنا لا أستطيع الإشارة إلى أن في سورية طرفاً عرف أو تعاون مع العملية»، يقول الضابط اللبناني. ويضيف: «...وأنا أيضاً لا اعتقد أن الموساد كان سيشرك أي جهاز استخبارات آخر باستثناء الأميركيين في الخطط المعدة للعملية. من خطط للعملية لم يقم فقط بتسوية دين إسرائيلي أميركي ثقيل، وإنما وجه كذلك صفعة مدوية ثلاثية الأولى للنظام السوري الذي علم مرة أخرى أنه من الممكن التحرك بحرية في الأراضي السورية والثانية لرؤساء الاستخبارات الإيرانيين وخامنئي والثالثة لنصرالله الذي لم ينجح حتى اليوم في إيجاد خليفة لكبير القتلى».
في طهران و«حزب الله» قرروا عدم ترك السوريين في حالهم. وفد من خبراء الاستخبارات الكبار الإيرانيين ووفد من «حزب الله» في لبنان ظهر في الوقت نفسه في دمشق. «جئنا للمشاركة في التحقيق والمساعدة»، قالوا. السوريون استقبلوهم ببرود، وقالوا لم نطلب منكم المجيء، فنحن نجري التحقيق بأنفسنا. المدعي العسكري السوري طالبهم بمغادرة المكان فوراً. وهذا المدعي بالمناسبة أصر أيضاً على أن سائق مغنية قد قتل في عملية الاغتيال. زوجة مغنية سعدى بدر الدين وقفت أمام عدسات التلفاز في بيت العزاء في إحدى قرى لبنان: «أنا أعرف من الذي اغتال الشيخ رضوان: الاستخبارات السورية والموساد، مخابرات دولة عربية أخرى، وجلال طالباني، الرئيس العراقي الكردي»، قالت بغضب وهي ترتدي الأسود ومحاطة بابنتيها. في الليلة نفسها وضعت الأرملة وأبناؤها في قافلة سيارات تابعة لـ«حزب الله» وأُرسلت إلى إيران مسقط رأس بدر الدين. صوتها لم يسمع منذ ذلك الحين.
النظام السوري تعهد بإنهاء عملية التحقيق في اغتيال مغنية خلال عشرة أيام ونشر النتائج «التي ستفاجئ العالم». المدعي العام العسكري في دمشق سرب لوسائل الإعلام معلومات مبهمة عن اعتقال عشرات الفلسطينيين «المتهمين بالتعاون وتقديم المساعدة». ضابط الاستخبارات اللبناني يقول إن أحداً لم يعتقل وفقاً للمعلومات، وحتى إن اعتقل عدد من الفلسطينيين في سورية فقد أُطلق سراحهم بعد مدة قصيرة. مضى أسبوعان آخران وفي هذه المرة تعهدت سورية بنشر نتائج التحقيق بعد القمة العربية في دمشق. محللون وناطقون رسميون سوريون أوضحوا أن النظام لا يريد تصعيد العلاقات مع تلك الأطراف العربية التي أمدت المخططين لعملية التصفية بالمعلومات الاستخباراتية عن تحركات مغنية. هم أطلقوا تلميحات قوية باتجاه إحدى سفارات الدول الخليجية في سورية واستخبارات هذه الدولة. اسم الأردن زج هو الآخر في القضية باعتباره قد ساعد وأسهم في إعطاء المعلومات.
يوم الخميس المقبل ستحل الذكرى الأولى لاغتيال مغنية. في إسرائيل يخشون عدم اكتفاء «حزب الله» في هذه المرة بتظاهرة إحياء وخطابات حماسية. نصر الله وعد بالانتقام الشديد والمدوي. الاستخبارات الإسرائيلية تحذر من عملية انتقامية مشتركة لـ«حزب الله» والوحدات المختارة الاستخباراتية الإيرانية من دون ترك بصمات لأصابعهم. طرف استخباراتي يحذر من عملية استعراضية كثيرة الضحايا ضد هدف إسرائيلي من مكان منعزل نسبياً في الخارج. ووفقاً لمعلومات اجنبية قد تم حتى الآن احباط محاولة شن هجوم على سفارة إسرائيل في أذربيجان. وفي سيناء ضبط المواطن اللبناني سامي شهاب عنصر قسم عمليات الخارج في «حزب الله» الذي درب خلية إرهابية فلسطينية لاختطاف وقتل الإسرائيليين. حتى الآن أدت اليقظة الأمنية إلى إحباط الخطة الانتقامية. ولكن «حزب الله» والإيرانيون كما تجمع الجهات الاستخباراتية كلها لا ينوون التنازل.
سمدار بيري
«يديعوت أحرونوت»