هيلاري الوزيرة ... رجاء خاص

تصغير
تكبير
أما وقد تسلمت هيلاري كلينتون رسمياً منصبها وزيرةً للخارجية الأميركية رافعةً شعار «القوة الذكية»... فلنا كلمة.
لن تعرف النظام الاميركي من الداخل إن لم تقرأ كتاب هيلاري كلينتون «تاريخ عشته» مثنى وثلاث ورباع. لن تعرف لماذا تتعامل الادارة معك وانت البعيد آلاف الاميال من واشنطن وعلى الضفاف الأخرى للمحيطات والبحار ما لم تعرف كيف تتعامل الإدارة مع قضايا الاميركيين أنفسهم وآلية عمل مظلة المصالح التي ينضوي تحت لوائها نواب وشيوخ وأصحاب شركات وأباطرة إعلام وقياديون من الحزبين فرقتهم السياسة وجمعهم... الدولار.
كتاب رائع ومتعب هذا الذي يحكي قصة اميركا لا قصة اميركية، وقصة سياسة لا قصة سياسية، وقصة أمة لا قصة أم. هو المدخل المنطقي للباحثين عما يمكن ان يجمع بين هيلاري، الوزيرة المكلفة إدارة الشؤون الخارجية للدولة العظمى اليوم، وبين منظومة الدول والشعوب الخارجة من مرحلة مختلفة وتجربة مختلفة طيلة السنوات الثماني السابقة.

وعلى رغم ان حصة السياسة الخارجية في الكتاب قليلة جدا مقارنة بالحصة الداخلية، فإن عدد الصفحات المتعلقة بقضية الشرق الأوسط تحديدا اقل من القليل لكنه يحمل رمزية كبيرة لجهة الجهود التي بذلتها ادارة زوجها بيل كلينتون في تحقيق سلام بين العرب والاسرائيليين ولجهة خيبات الامل التي حصدتها اضافة الى مرارة التجربة الشخصية التي ذاقتها من زوجات زعماء عرب وآخرين.
زارت هيلاري المنطقة كثيرا عندما كانت السيدة الاولى، وزارت قضايا المنطقة الولايات المتحدة كثيرا في عهد زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون. لم تكن الزيارات للتعرف والتعارف فقط بل للعمل وتحقيق انجازات لم تكتمل لاسباب عدة اهمها ان الساسة العرب لم يكونوا مؤهلين لتسويات تاريخية وان التطرف الاسرائيلي لم يسمح بهذه التسويات وان انسداد الآفاق اطلق شهية المتشددين والارهابيين لوليمة دم كبرى عقدت بعد سنوات ودعي اليها العالم بأسره مرغما.
بعد انقضاء حكم زوجها وما رافقه من سجالات، زارت قضايا المنطقة الولايات المتحدة بشكل مختلف. لم تعقد محادثات في كامب ديفيد. لم تحصل خلوات في وايت بلانتيشن. لم تنصب الاحتفالات في حديقة البيت الابيض. الزيارة كانت جوية ونارية ودموية ووحشية وارهابية اسست لتاريخ عالمي جديد اسمه 11 سبتمبر. قابلتها زيارات اميركية مختلفة ايضا الى المنطقة مؤسسة لتواريخ جديدة مع احتلال دول واسقاط انظمة. ضاعت قضية فلسطين في الطائرة المخطوفة التي ضربت برج التجارة وصارت المقاومة ارهابا، وضاعت منظومة التعاون الدولي والقيم الاميركية في عمليات القصف العشوائي، عسكريا وسياسيا، للمنطقة وصار الاحتلال عصرا جديدا... ثم تفرغت دوائر القرار ومراكز الابحاث للاجابة عن سؤال: لماذا يكرهوننا؟
جملة واحدة في كتاب هيلاري تتعلق بالسياسة العامة للولايات المتحدة قد تكون مصدر قلق اذا حسبت في ميزان تجربة السنوات الثماني السابقة، وقد تكون مصدر اثراء اذا حسبت في اطارها القيمي العام. تتحدث بعد عقد سلسة جلسات عمل بين مجموعات سياسية وفكرية مشتركة ضمت فريقي بيل كلينتون وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، عن اهمية «بناء معتقداتنا السياسية على اسس ايماننا الديني»... طبعا لم تقصد ربما ضرورة ان ترتكز السياسة الخارجية لاميركا وبريطانيا على الشريعة المسيحية بل على الاطار الانساني خصوصا الاجتماعي المتفرع منها، لكن التجربة السابقة التي ردت فيها ادارة اعظم دولة في العالم على توظيف العرب والمسلمين للاسلام في السياسة بتوظيف المسيحية في السياسة كانت تجربة فظيعة ومرعبة بحد ذاتها.
نريد من هيلاري وزيرة الخارجية الاميركية أن تنبع السياسة العامة لاميركا من قيم العدالة والمساواة والمبادئ والصداقة والدساتير والقواعد المدنية المتحضرة، ومثلما رفضنا أن يخرج من بيننا من يقول انه دمر مبنى على رؤوس من فيه لأن الرسول زاره في المنام وامره بذلك، نتمنى ان ترفض هيلاري وغيرها ان يحتل الرئيس الاميركي منطقة ما من العالم لأن الله امره بذلك، او ان يكثف (او يبطئ) المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية لأن الله امره ايضا بذلك.
الدين كقيم ومبادئ ومثل وروحانيات مظلة ضرورية لعلاقات البشر مع أنفسهم ومع أقرانهم، أما توظيفه في العلاقات السياسية فأدى الى صراعات حضارية ربطت بين الهوية وبين الممارسة، وربما كانت الولايات المتحدة بتجربتها الانسانية الفريدة أكثر دولة في العالم عانت من توظيف الدين في جملة مسائل داخلية حصدت، وباسم المسيحية، مجازر عنصرية وجرائم انتحار جماعي وتفجيرات طالت عشرات الابرياء.
تجربة هيلاري السياسية، مرتكزة بشكل أساسي على نضالها لتطوير أنظمة الصحة والتعليم والقضاء وحقوق الانسان وإلغاء كل أنواع التمييز، وهو الامر الذي شرحته بالتفصيل عبر مئات الصفحات في سيرة حياتها. نريدها فقط ان تعرف ان ما نحتاج اليه في منطقتنا هو فعلا ما ناضلت من اجله هي في اميركا. نريدها ان تصدر لنا عبر مسؤولياتها الجديدة خلاصة الانجازات التي تحققت عبر نضالها من اجل التقدم الاجتماعي، لا ان تصدر لنا ما قاله الرئيس بوش من ان الله «امره» هنا وهناك وهنالك، فعندنا الكثير من الذين يردون ما يقومون به الى امر الله... والله جل جلاله ما نهى عن شيء اكثر من أفعالهم.
اهلا بك معالي الوزيرة على ارض الواقع. أهلاً بالقوة وبالذكاء ولكن أهلاً بالعدل قبل ذلك. نريدك ان تعملي دائما على الارض... ان تساهمي في ترتيب القضايا على الارض. ان تساعدي في الرحمة على الارض. ان تعيدي السياسة الى الارض بعدما رأينا نتائج ممارستها في... السماء.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي