حائرون وضائعون يا جابر الأحمد

تصغير
تكبير
ألجأ اليك في ذكرى غيابك وأنا الذي ما اعتبرتك إلّا حاضرا، وكم هي المفارقة مؤلمة ان تحضر بقامتك كذكرى فيما الكثير من العدالة والانصاف والقيم والاصول والتقاليد والاخلاق... يغيب.
انا شخصيا من جيل فتح عينيه على قضية فلسطين المشتعلة اليوم. كنت اقرأ على تذاكر السينما وبطاقات الانشطة الرياضية والاجتماعية الكويتية ان جزءا من ثمنها يذهب الى «القضية»، وكنت اعرف ان جزءا من الراتب مخصص لدعم صمود اهلنا هناك واتابع يوميا عمل «اللجنة الشعبية لجمع التبرعات» التي كانت بالفعل مفخرة حقيقية في الشفافية والانجاز.
لم تخل سنة من سنوات شبابنا الا ولونتها اسرائيل بمشهد اسود: مجزرة او اعتداء او اغتيال او تصفية او تهجير او احتلال. ولم تخل سنة من سنوات شبابنا الا ولونها التواطؤ الدولي الرهيب بلون الدم والقهر.

وانا وغيري من ابناء جيلي فتحنا العيون ايضا على الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية والعربية - العربية والعربية - الاسلامية، وادركنا ان الغدر والخطأ وشهوة الاحتلال ليست حكرا على العدو الذي لا عدو سواه... وكيف لا اتذكرك اليوم يا ابا مبارك وانت الذي واكبت كل هذه الاحداث التي تتجدد بطرق اخرى، وكدت تدفع حياتك ثمنا للغدر والاجرام والغزو والخيانة، لكنك قدت سفينة الكويت من بحر الى بحر ومن مرفأ الى آخر متجاوزا كل الرياح والعواصف وعدت بها الى السيف سليمة معافاة قبل ان تغمض عينيك برضى واطمئنان.
وانا من جيل فتح عينيه كويتيا على قيادة فعلية اسمها جابر الاحمد. كانوا يقولون لنا صغارا ان هناك من جعل مستقبلنا اولوية الاولويات، وهناك من جعل الحرص على الحياة المعيشية الرغيدة برنامجه السياسي، وهناك من جعل منظومة التأمينات الاجتماعية وصندوق الاجيال والآفاق الوظيفية وتطوير التعليم والصحة شغله الشاغل، وهناك من جعل الاقتصاد فلسفة حياة، وهناك من دمج اهدافه كلها بهدف واحد اسمه «الكويت الحديثة». و«هناك»... كلمة كانت تعني قيادة بمناصب متعددة وعندما وصلت الى سدة الامارة كانت كمن تربع على هرم من الانجازات الحقيقية.
هكذا تفتحت اعيننا على المشهدين الخارجي والداخلي يا جابر الاحمد، ومن غيرك في ذكراك يمكن ان نسأله النصح والمشورة ونستلهم من سيرته آفاق الحلول لمشاكل مستعصية؟
النظام العربي الذي كنت تعرفه لم يتغير. انقسامات من فوق وانهيارات من تحت. بعض المقاومات الباسلة هنا وهناك والكثير من الغدر والطعن في الظهر والخيانات والاخطاء والخطايا. شهوة التطرف الى ازدياد والوسطية والعقلانية الى انحسار. بعضنا يساعد اسرائيل مباشرة وكثيرون يفعلون بشكل غير مباشر، والقضية الفلسطينية يا سيدي كما هي لم تتغير... قضية شعب مناضل طامح الى استعادة ارضه وبناء دولته، وقضية انظمة تريد ان تتاجر بها لتحقيق مكاسب خاصة. اما من يدفع الثمن فهم المدنيون الضحايا الابرياء وتحديدا الاطفال الذين كرست جل اهتمامك لتأمين مستقبل عربي واعد لهم.
النظام العربي الذي كنت تعرفه لم يتغير لكن النظام الكويتي الذي كنت تعرفه... تغير، والحمد لله يا سيدي انك اغمضت عينيك قبل ان ترى ما يحصل. باختصار، الكويت لم تعد الكويت. كل سلطة تأكل نفسها وتأكل الآخرين وكأن السفينة ان غرقت ستأخذ معها الى القاع الجزء وليس الكل. الاساس الوطني الجامع تهاوى لتنبت مكانه جدران الطائفية والقبلية والعنصرية والمناطقية. صارت الحياة السياسية اشبه بمعسكرات منغلقة مسورة بأسلاك شائكة، فهنا اطلاق نار بالواسطة وبالنيابة، وهناك هدنة لأن الوزير حافظ على التركيبة الادارية الطائفية او القبلية. هنا اولاد العمومة يتصارعون عبر رموز في السلطتين وهناك صفقات وتسويات على حساب المال العام ومستقبل الاجيال. تقلص الشأن العام كثيرا وتقدمت المصالح الخاصة... وتراجعت الكويت في كل المجالات.
الازمة السياسية يا سيدي الامير الراحل صارت كطائرة تعطلت محركاتها فيما ركابها يتصارعون على توزيع المقاعد، والازمة المالية التي اجتاحت العالم وضربت اقتصادنا قاومناها مرحليا بفضل المؤسسات والتشريعات وعناصر الاحتياط التي خبأتها انت لليوم الاسود... لكننا ايضا نخشى ان يؤدي الانحدار السياسي الى ادخال هذه المؤسسات والتشريعات في صفقات ومغامرات تقضي على الحصن الاقتصادي الذي بنيته يا جابر الاحمد حجرا بعد حجر وعلى امتداد سنوات.
حائرون نحن وضائعون، وما كنا لنخاطبك في ذكراك نسألك العون لولا حيرتنا وضياعنا، وما كنا لنستلهم من سيرتك ومسيرتك لولا الحاجة الماسة لذلك... انت الذي كنت بنظرة عين واحدة تستكشف ما تريد استكشافه، وانت الذي بلحظة صمت تقول ما تريد ان تقوله.
سيدي سمو الامير الراحل الشيخ جابر الاحمد. سامحنا ان اثقلنا عليك وارهقناك لكنك الحاضر المشتاق الى ديرتك واهل ديرتكم رغم الغياب. اما نحن، فالكثير منا متغرب عن ديرته رغم الحضور.
سامحنا مرة أخرى وتقبل اعتذارنا ... واشتياقنا.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي