«حزب الله» على صمْته... وخيارات الحريري تحت المعاينة وبري يجْتهد باحثاً عن مَخارج
الحُكْم باغتيال الحريري في عيون بيروت كأنه... «الموناليزا»
مدوٍّ جاء صمتُ ما بعد إدانة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، المسؤول العسكري في «حزب الله» سليم جميل عياش في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتبرئة المُتَّهمين الثلاثة الآخَرين حسين عنيسي أسد صبرا وحسن مرعي لعدم كفاية الأدلة.
فمنذ أن نَطَقَتْ المحكمةُ، أول من أمس، بحُكْمِها الغيابي القابل للاستئناف والذي سيُستكمل بتحديد العقوبة بعد شهر، بدت بيروت وكأنها بين مطرقةِ مقاربةٍ تَعاطتْ مع هذا التطور الذي طال انتظارُه على أنه أقفلَ البابَ على حقبةٍ طَبَعَها زلزال 14 فبراير 2005 وارتداداته التي تَوالتْ على مدى 15 عاماً، ليُلاقي أخرى ترتسم على وهج زلزال 4 أغسطس (انفجار مرفأ بيروت) الذي يشي بتأثيراتٍ أكبر من اغتيال الحريري كونها تمتدّ على رقعة صراعات المنطقة وبقع التوتر العالي فيها، وبين سندان رؤيةٍ قرأتْ في الحُكْم «ثأراً» للحقيقة في سلسلة الاغتيالات السياسية التي أعقبت تفجير 2005 كما التي سبقتْه على مدى عقود خلتْ وبقيت برسم مجهول.
وفيما كان الشارع، خصوصاً جمهور «تيار المستقبل» وما كان يُعرف بقوى 14 آذار، يتلقّف الحُكْم بما يشبه الحيرةَ في الاحتفاء به أو الشعور بالإحباط منه، فإن وقعَه على المستوى السياسي لم يكن أقلّ ارتباكاً بعدما بدا وكأنه أعطى «تأثير الموناليزا» بحيث شعر «حزب الله» (لا يعترف أصلاً بالمحكمة الدولية) وحلفاؤه كما خصومه بأنه «يضحك لهم»، فظهّر المُدانُ «فردياً» بالجريمة عبر وسائل إعلام وقريبين منه أن المحكمة التي كبّدت نحو 800 مليون دولار منذ إنشائها خلصتْ إلى استنتاجاتٍ غلب عليها «لا نعرف» ولم تتوصّل إلى تفكيك شيفرة الجريمة كاملة وأبقتْ على مجهولية غالبية الفاعلين ولم تجرّم الحزب ولا النظام السوري.
وفي المقابل، اعتبر داعِمو المحكمة أنها أثبتتْ بتبرئةِ 3 متَّهَمين صدقيّتَها وابتعادها عن أي تسييس وأن خلاصة الحُكم انه دان فرداً ارتكب جريمة بدافعٍ سياسي «وجودي» لـ«منظمة» (حزب الله) ونظام (السوري) وهي في نظامها لا يمكنها أن تحاكم لا أحزاباً ولا أنظمة ولا دولاً.
ومن خلْف ظهر المَظاهر المثيرة للجدل التي عبّر عنها رفْع صور لعياش في مسقطه في بلدة حاروف الجنوبية، كُتب عليها«أبناء بلدة حاروف يفتخرون بابنهم المقاوم»، وفي حين التزم «حزب الله» الصمتَ حيال الحُكم بعدما كان أمينه العام السيد حسن نصرالله أعلن (الجمعة) أنه سيتعاطى معه «كأنه لم يكن»، لم يقلّ إثارةً للانتباه صمتُ أطراف سياسية حليفة للرئيس سعد الحريري وخصوصاً رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
ورغم الموقف الواضح الذي أعلنه الحريري الابن، بعيد صدور الحكم لجهة دعوته «حزب الله» إلى التضحية والتمسك بتسليم عياش وهذا مطلبنا ولن نتراجع عنه ونقطة على السطر، و«حزب الله» يعرف ان جريمة الاغتيال تقع عليه، فإن الجملة - المفتاح في الحُكْم التي استوقفت دوائر متابعة وتركتْ أصداء مكتومة في الأروقة السياسية في لبنان وخارجه والتي وردت في معرض تقديم حيثيات الجريمة ودافعَها السياسي كانت: «ما من دليل على ضلوع قيادة (حزب الله) في مقتل الحريري، وما من دليل مباشر على ضلوع سورية فيه، وما من دليل على أن عياش أو (مصطفى) بدر الدين تلقيا توجيهات من قيادة (حزب الله) بتوفير الدعم اللوجستي لاغتيال الحريري»، وذلك بعدما اعتبر «ان بدر الدين كان من كبار المسؤولين العسكريين في (حزب الله)؛ ولربما كان لدى سورية و(حزب الله) دوافع لتصفية الحريري، وبعض حلفائه السياسيين».
وفي حين تعاطت بعض الدوائر مع النأي بقيادة «حزب الله» خصوصاً عن الاغتيال على أنه من باب «فتْح باب أمام المصالحة الداخلية»، فإن غموضاً ساد حيال خلفيات هذا التطور وما إذا كان يتّصل بمناخاتٍ أبعد من حدود جريمة فبراير 2005 وبتسوياتٍ بدأت تُحاك ربْطاً بالواقع اللبناني البالغ التعقيد والذي يبدأ بالانهيار المالي ولا ينتهي بتداعيات انفجار المرفأ وما أعقبه من هبّة دولية في اتجاه «بلاد الأرز» بدت مدجَّجة بكل عناصر الصراع من حول لبنان وعليه وباتت تفرض حدود تشكيل الحكومة الجديدة والشروط المطلوبة لقبولها من الخارج وليس أقلّها ابتعاد «حزب الله» عنها (تحت عنوان حكومة مستقلين) وإجراء الإصلاحات البنيوية والهيكلية واستطراداً قطْع خطوط الإمداد التي «يتغذى» منها نفوذ الحزب ويرتبط عبرها بقوس النفوذ الإيراني.
وإذ يشكّل ما ستحمله الأسابيع القليلة المقبلة الجواب على علامات الاستفهام التي رافقت صدور الحكم خصوصاً لجهة رصْد إذا كان فريق الادعاء أو المتضررون او حتى الدفاع عن عياش سيستأنف الحكم وما قد يترافق مع ذلك من عناصر جديدة تضاف إلى القضية وصولاً إلى رصْد مسار القضايا الثلاث الأخرى التي ثبت ترابطها بجريمة الحريري (اغتيال جورج حاوي ومحاولتا اغتيال مروان حماده والياس المر)، لم يكن ممكناً أمس تَلَمُّس تأثيرات إدانة عياش على ملف تأليف الحكومة رغم الحركة التي أطلقها رئيس البرلمان نبيه في اتجاه رئيس الجمهورية ميشال عون أمس، والتي أشارت معلومات إلى أنها جاءت من ضمن مبادرة لبري على قاعدة تأكيد «أن الوضع لا يحتمل التأجيل وأن الحريري رجل المرحلة واستشارات التكليف ضرورية في أقرب وقت».
وفيما بدا من المكبر الجزم بمآل هذا الحِراك، وهو الأول الذي أوحى بلبْننة مسار التكليف والتأليف بعدما سلّم الداخل بإدارة هذا الملف للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي حاول تدوير زوايا الاستقطاب الأميركي - الإيراني عبر الدفع نحو «هبوط آمن» للبنان حدّد له مهلةً زمنية تنتهي مطلع سبتمبر (موعد زيارته لبيروت) على قاعدة حكومة من مستقلين تحظى بدعم كل القوى السياسية، فإن أسئلة برزت حول إذا كان «حزب الله» في وارد القبول بشروط الحريري لحكومةٍ من غير السياسيين والحزبيين، وهي الشروط التي صارت أكثر مشروعية بعد الحكم، وإذا كان عون تَراجَعَ عن حكومة الأقطاب.
ولئن برزت أمس دعوة مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان في رسالته لمناسبة حلول رأس السنة الهجرية «لتحقيق دولي في اغتيال بيروت (تفجير المرفأ) وقيام رئيس الجمهورية بإجراء استشارات نيابية ملزمة وعاجلة لتسمية رئيس حكومة يكلف تشكيل حكومة حيادية إنقاذية، ويكون من مهماتها إنفاذ الحكم في قضية الرئيس الحريري»، بدا أن الصدى الدولي للحُكم في جريمة 14 فبراير ينذر بأن يتحوّل عامل ضغط إضافياً على «حزب الله».
وفي حين رحّبت وزارة الخارجية الأميركية بالحُكم، معتبرة «ان نشطاء (حزب الله) لا يعملون لحسابهم الخاص، وتأتي إدانة عياش لتساهم في تأكيد ما بات العالم يدركه أكثر فأكثر من أن (حزب الله) وأعضاءه يشكّلون منظمة إرهابية هدفها تنفيذ الأجندة الطائفية الخبيثة لإيران»، اعتبرت الخارجية السعودية أنها ترى في الحكم «ظهوراً للحقيقة وبدايةً لتحقيق العدالة»، داعية «لتحقيق العدالة ومعاقبة (حزب الله) وعناصره الإرهابية»، وموضحة أنها تتطلّع «إلى أن يعمّ لبنان والسلام بإنهاء حيازة واستخدام السلاح خارج إطار الدولة».
أما وزير الدولة الإماراتية للشؤون الخارجية أنور قرقاش فأعلن «اليوم بعد أن حكمت المحكمة الدولية ندعو أن تأخذ العدالة مجراها بحق القتلة».