الحُكم في جريمة الحريري يتوّج 15 عاماً من الزمن اللبناني الصعب
«الدولة الشهيدة» لن تهنأ اليوم بـ «العدالة» لـ... «دولة الشهيد»
لن يشعر «دولة الشهيد» اليوم بالسلام مع صدور الحُكْم في جريمة اغتياله. فمن «مقامه» في وسط العاصمة يدْمعُ على «الدولةِ الشهيدة» التي سال دمُها قبل 14 يوماً.
رفيق الحريري الذي هوى في 14 فبراير 2005 على حافة البحر في «السان جورج» توقظه اليوم «أجراسُ العدالة» التي تُقرع في لاهاي، لكن «شهيد بيروت» لن يهنأ بحُكْمٍ طال انتظاره... فـ«بيروت الشهيدة» انكسر خاطرها مرتين، مرةً يوم شُطب بانيها في زلزال الـ 2.5 طن، ومرّة ثانية يوم «ابتلعها» ميناؤها البحري ودمّر بنيانها في زلزال الـ 2750 طناً.
18 أغسطس 2020، يعود الزمن عقداً ونصف إلى الوراء، إلى ذاك الاثنين المشؤوم يوم ضربَ انفجارٌ ضخم بيروت في «قلْبها»... الدخانُ المتطاير أصابَ العاصمة بما يشبه «العمى»... دقائق مُخيفةٌ من التكهنات حول المستهدَف من «زلزالٍ» كانت محاولة اغتيال النائب مروان حماده (في الأول من أكتوبر(2004) «هزّتُه التمهيدية».
... كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة إلا ربعاً عندما حلّ «الرعب». مشاهد خرجت عبر الشاشات التي «فاضتْ» عليها صورُ الواجهة البحرية لبيروت ومحلّة السان جورج «المنكوبة» التي تغرق في بحر من الدم والدمار.
... عندما شقّ «خط الموت» طريقَه في وسط العاصمة، انقطعتْ خطوط الهاتف، فلا «حرارة» تعلو فوق «اللهيب» الذي «جمّد» الحركة في شوارع بيروت، وكأنها «استشعرت» بأنها أمام تاريخ مأسوي سيدخل التاريخ ويفتح «أبواب الجحيم» على لبنان.? ?
دقائق مرّت كالساعات، غاب فيها الجميع «عن السمع»، بعدما بدأ غبار الانفجار ينقشع على الفاجعة... باردةٌ ومتشحةٌ بالسواد بدت أشعة الشمس الخارجة من خلْف سحب الدخان المنجلي، فالحقيقة الجلية كانت أكبر من أن يصدّقها أحد. رفيق الحريري سَقَطَ... الشخصية «الماردة» في علاقاتها الخارجية «تَمَرَّدَ» عليها الاغتيال فتمّ «شطبها» من المعادلة من فوق العناوين التي كتبت «بالخط العريض» قبل يومين من ذاك الاثنين المجنون «شيراك وبوش يحذّران سورية من المسّ بسلامة الحريري و(النائب وليد) جنبلاط».
«الزلزال» في لبنان ولكن ارتداداته لفّت العالم في يومٍ تحدّث فيه الرؤساء عبر أكثر من «خط أحمر» عن الانفجار الذي شكّل خرقاً لكل «الخطوط الحمر» التي حكمتْ التوازنات اللبنانية والإقليمية.
ذاك الانفجار الذي ظنّه كثيرون جدارَ صوتٍ لأنه جاء على دفعتين والذي خلّف في موقع الجريمة حفرةَ بلغ عرْضها عشرة أمتار وعمقها مترين على الأقلّ وأدى إلى مقتل 22 شخصاً (بمن فيهم الحريري)، بقيت شظاياه تتطاير في السياسة والأمن بعدما دخل معه لبنان مرحلةً من «الكوابيس» التي سرعان ما تشابكتْ مع «أحلام الربيع» العربي حتى بدت وكأنّها «ضربةً استباقية» له.
هو 18 أغسطس، الموعد الذي يترقّبه لبنان والعالم للنطق بالحُكم في حق أربعة من «حزب الله» يُحاكَمون منذ يناير 2014 غيابياً أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (سليم جميل عياش، حسن حبيب مرعي، حسين حسن عنيسي، وأسد حسن صبرا) وقد أُسندت إليهم تهمة المشاركة في مؤامرة لارتكاب عمل إرهابي، وتهمة القتل عمداً، وتهمة محاولة القتل عمداً، وعدد من التهم الأخرى.
علماً أن مصطفى أمين بدر الدين، كان أحد المتهمين أيضاً، إلى أن أنهيت الإجراءات القائمة بحقه بعد ورود خبر مقتله في سورية في يوليو 2016، من دون المساس بإمكان مواصلة الإجراءات بحقه إذا قُدّمت في المستقبل أدلّة تثبت أنه لا يزال على قيد الحياة.
وأبعد من الإدانة المتوقَّعة، فإن حبْسَ الأنفاس يسود حيال التعليل الذي سيرافق النطقَ بالحكم والذي سيرتكز في جوانب رئيسية على «المسرح السياسي» لاغتيالٍ كرّتْ بعده «سبحة» القتْل على «الهوية السياسية» لتحصد 12 شخصية سياسية وإعلامية وأمنية، في جرائم (إضافة إلى 3 محاولات اغتيال) سابقتْ مسار قيام المحكمة الدولية وبدء عملها (في الأول من مارس 2009 ) وصولاً الى انطلاق المحاكمات الغيابية في يناير 2014 وسط انقسامٍ لبناني حول هوية «القاتل المتسلسل».
علماً أن هذه المحكمة التي تتّخذ من لايتشندام (أحد ضواحي لاهاي) مقراً لها، هي أوّل محكمة ذات طابع دولي تنظر في الإرهاب باعتباره جريمة قائمة في ذاتها مرتكَبة خارج إطار نزاع مسلّح، وفي إطار محلي. وقد أنشئت بموجب القرار 1757 (2007) الصادر عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع والذي أكّد أنّ اعتداء 14 فبراير 2005 والآثار المترتبة عليه مثّلت «تهديداً للسلام والأمن الدوليين».
بين 2005 و2020، عقدٌ ونصف عقد على جريمةٍ أعطت إشارةً مبكّرة الى «حرب» النفوذ التي استعرتْ في المنطقة «على المكشوف» في الأعوام التسعة الأخيرة، والتي كانت «مقّدماتُها» لاحتْ مع إسقاط نظام صدام حسين العام 2003 وما أعقبها من نظرياتٍ حول قرارٍ بتمدُّد «دومينو» حُكم الأكثريات، فبدا 14 فبراير 2005 اللبناني، وفق خصوم النظام السوري و«حزب الله»، محاولةً لوقف هذا «الدينامو» عبر تفجير الحريري الذي استعجلَ بعد شهر، أي? ?في? ?14? ?مارس، انفجار «?بركان الثورة?» ? في? ?وجه سورية التي? ?سرعان ما نفّذت (في 26 أبريل) «?انسحاباً? ?اضطرارياً?» ?من لبنان كان القرار? ?1559? ?أصدر? «?أمر العمليات?» ?الدولي? ?بحصوله?.?
15 عاماً على جريمةٍ أدخلت لبنان في صراعٍ مكشوفٍ على التوازنات بلغ مراتٍ درجة «الصِدام» بين فريقيْ 8 و14 آذار، وجاء امتداداً لعملية التدافع الخشِن بين المَحاور في المنطقة والتي «انفجرت» بالكامل مع الثورات العربية التي أطاحت بأنظمةٍ، إلى أن «أُوقفتْ» عند النظام السوري الذي يتّهمه خصومه اللبنانيون بأن «شطب» الرئيس الحريري كان في إطار تَقاطُع مصالح مباشرٍ مع إيران، لمنْع إخراج نفوذه من لبنان وتالياً تهديد مصيره داخل حدوده ونسْف مشروع التمدُّد الإيراني حتى المتوسط.
اليوم وفي حضور الرئيس سعد الحريري، يُعلن قرابة السادسة مساءً الحكْم (بعد 3 جلسات تنطلق قرابة الحادية عشرة قبل الظهر) الذي سيتوّج أعواماً من «الزمن اللبناني» الصعب، طبعتْه محطاتٌ بارزةٌ، لعلّ أهمّها أحداث 7 مايو 2008 حين نفّذ «?حزب الله?» عملية عسكرية في بيروت وحاول اقتحام الجبل الدرزي، ?لتقفل هذه الصفحة ?على توقيع «اتفاق الدوحة» الذي أمّن «خريطة الخروج» من «خط النار» وانتخاب رئيس جديد للجمهورية (العماد ميشال سليمان) وتشكيل حكومة وحدة وطنية حصلت فيها «8 آذار» على «الثلث المعطّل» الذي اعتُبر بمثابة أول «مدماك» في أطار «مثالثة» (سنية - شيعية - مسيحية) تشكل عملياً ضرباً لمرتكزات اتفاق الطائف ومجمل التوازنات الداخلية والخارجية التي عبّر عنها.
ولم يقلّ «انقلاب» يناير 2011 «الناعم» أهمية عن حلقة 7 مايو 2008 بل اعتُبر «وجهَه الآخر» وإن السياسي، اذ مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري تلقّت قوى 14 آذار ضربة قويّة «بالنظام» وجدتْ معها نفسَها للمرة الأولى منذ ولادتها خارج السلطة، وذلك بعدما فشل مسعى الـ«سين سين» (السعودية - سورية) حينها بإيجاد «بوليصة تأمين» تساعد لبنان في الاحتواء السياسي لارتدادات جريمة اغتيال الحريري والقرار الاتهامي الذي كان سيصدر في شأنها عن المحكمة الدولية، فكان ما اعتبرته 14 آذار انقلاباً سورياً - إيرانياً على المحور الأميركي - السعودي من خلال «تطيير» حكومة الحريري.
وإذا كانت موجباتُ انطلاق المحاكمات في لايتشندام العام 2014 وملاقاة «الشغور الرئاسي» الذي كان «مكتوباً» أن ينتهي إليه عهد الرئيس سليمان (في مايو 2014) حتّمت ولادة حكومة (في فبراير 2014) برئاسة تمام سلام استعيدت معها «المساكنة الاضطرارية» بين أطراف الصراع في لبنان، في انعكاس لقرار إقليمي بترْكه بمثابة «صندوقة بريد» لتبادُل الرسائل الإيجابية أو أقله «المهادنة»، باعتبار أن المواجهة الكبرى الدائرة في الساحات الاستراتيجية الأخرى ستكون كفيلة بتحديد هوية «الغالِبين»، فإن مسارَ ما بعد تسوية 2016 التي أفضتْ إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية (بعد فراغ لنحو 30 شهراً) وعودة الحريري لرئاسة الوزراء وَضَعَ البلاد تباعاً في فم أزماتٍ متناسلة على وهج القضم المتدرّج بالممارسة، كما بعد فوز تحالف «حزب الله» - التيار الوطني الحر بانتخابات 2018 النيابية وإمساكهم للمرة الأولى بكامل مفاصل اللعبة، لما تبقى من توازناتٍ فيما كانت البلاد تنزلق خطوة خطوة بعيداً عن الشرعيتين العربية والدولية مع تَحوُّل عنوان «النأي بالنفس» مجرّد شعارٍ تحوّل أشلاء على وقع اتساع أدوار «حزب الله» العابرة للحدود.
وعلى وقع احتدام الصراع الأميركي - الإيراني في المنطقة والذي وجدت بيروت نفسها في عيْنه بفعل وضعية «حزب الله» داخلياً وخارجياً، شكّلت انتفاضة 17 أكتوبر 2019 وما أعقبها من استقالة الحريري وتأليف حكومة اللون الواحد (من التيار الحر وحزب الله وحلفائهما) برئاسة حسان دياب، بدا أن لبنان آخَر يشق طريقه من قلب حطام الانهيار المالي غير المسبوق في تاريخ البلاد والواقع السياسي الذي اعتُبرت معه «بلاد الأرز» وكأنها سقطت بالكامل في المحور الإيراني.
... إلى أن وقع «بيروتشيما» في 4 أغسطس، قبل 3 أيام من الموعد الذي كان مقرَّراً لصدور الحكم في جريمة الحريري (أرجئ تضامناً مع ضحايا الكارثة واحتراماً للحداد الوطني في لبنان)، وسط مفارقاتٍ ارتسمت مع مسارعة أطراف لبنانية وبينها «تيار المستقبل» (بقيادة الحريري الابن) إلى وضْع «مذبحة» بيروت على نفس «الفالق الزلزالي» الذي شُطب معه رفيق الحريري وسط مطالباتٍ بتحقيق دولي أسوة بجريمة 14 فبراير 2005.