حوار / وزير الداخلية اللبناني يتحدّث عن «جدار إسمنتي مسلّح نواجهه ولا بُد من إرادة سياسية لكسْره»
محمد فهمي لـ «الراي»: لا نهوض من كبْوتنا من دون مساعدة دول الخليج... ونتمنى ألّا تتركنا
العلاقةُ مع الإخوة الكويتيين علاقة توأم... وكذلك الأمر مع الإخوة السعوديين والإماراتيين
نحن بحاجة لإعادة المياه الصافية إلى مجاريها مع دول الخليج
لا حلّ إلّا بأن تأتي الموالاة والمعارضة إلى خيمة التوافق السياسي
الحكومة تعمل لإخراج لبنان من أسوأ أزمة تواجهه
ما نشهده وليد تراكمات لمنظومةٍ سياسية
الحلّ يتجاوز الحكومة ويكمن في خروج الأحزاب من صراعاتها ورهاناتها
لا يمكن أن تنأى الحكومة بنفسها إلّا بتوافُقِ فئات المجتمع
لا تصفية حسابات في موضوع التدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان
مصرف لبنان هو المعني بضخّ الأموال ومن خلاله يمكن أيضاً معرفة في أي اتجاهٍ ذهبتْ الـ 48 مليار دولار للكهرباء
إذا اقتضى الأمر اللجوء إلى تدقيق جنائي - مالي في ملف الكهرباء... فليكن
الذهاب إلى «المنبع» من شأنه كشْف ما حصل في مؤسساتٍ كثيرة
لهذا شعرتُ بضيق كبير من الأوراق البيض الثلاث لوزراء الثنائي الشيعي ... وكأننا نحن لسنا وطنيين
دَعُونا ننتظر الحكم في جريمة اغتيال الحريري ... نحن حكومة نمثّل الدولة وننفّذ القوانين
أجواء زيارة اللواء إبراهيم للكويت إيجابية وثمة حلْحلة في ضوء اتصالاته يمكن أن تضخّ شيئاً من الأوكسجين في واقعنا
إبان غزو العراق للكويت كان لأحد اللبنانيين شرَفُ القيام بأول عملية ضدّ الاجتياح
لم يكن يخطر على بالٍ، لا في اليقظة ولا في الأحلام، أن لبنان سيسقط يوماً صريعاً بما هو أدهى من «صيْبة عيْن»، فيُرْديه أهلُه لحساباتٍ إقليمية أو لحساباتٍ مصرفية أو لسوء حسابات.
لا حكايا الجَدّات ولا الأساطير الموحشة ولا الخيال العلمي أَخْبَرَنا أن الوطنَ الجميل، الذي يشبه قصائد الغزَل سيهوي في ليلةٍ ليلاء إلى قعرٍ لا قعر له من دون أن يرفّ جفنُ لمُنْتَحِريه.
ربما يُصاب التاريخُ غداً بالهذيان وهو يفلْفش صفحاته عن لبنان... تلك البلاد الساحرة التي اقتادها سحَرة سود إلى بئس المصير، وهي التي ملّت انتظار «انقلاب السحر على الساحر» كل مَرة.
في واحدةٍ من صفحات التاريخ سيروى أن هذه البلاد الحية، التي غنّتْها الحَناجر لم تَرْحمها الخَناجرُ المسمومةُ، وأن الوطن البهيّ جعلوه، وعن سابق تصميم، مجرّد ساحة، وأن «طائر الفينيق» ضاق ذرعاً بالرماد.
لبنان، الذي ينكّس أعلامَه في ذكرى مئويته الأولى، ها هو يحنّ إلى الضوء والجامعة والبحبوحة والمقهى والمستشفى والقصائد والمصيف وعرق الجبين والبحر والوليمة العامرة والأبناء المهاجرين... يحنّ إلى الحياة.
لبنان، الذي لن يرتدي ثوبَ العيد في عبورِه إلى المئوية الثانية، يتضوّر جوعاً، يسكنُه الظلامُ، يتحكّم به الظلمُ، تنْهشه المآسي، يغزوه الفقرُ والبؤسُ، وشبابُه إما إلى الانتحار وإما إلى... خلف البحار.
أما بعد... إلى أين؟
سؤالٌ، تعود «ملكيته الفكرية» إلى وليد جنبلاط، السياسيّ الذي عجزت براغماتيّته عن استشراف جوابه، فحملْناه إلى وزير «السوبر وزارة»، أي الداخلية العميد محمد فهمي، لمعرفةِ ما ينتظر لبنان، الذي فاخَرَ طويلاً بأنه سويسرا الشرق ودُرّة المتوسط وصانع الحرف وباني الشرائع.
يستهول الوزير، الذي يَجْمع في حقيبته (الداخلية)، السياسيّ والأمني والإنمائي، الجوابَ الشاق على سؤالٍ من كلمات لا ترقى حتى إلى جملة «ما من أحد يمكنه التكهّن بالمستقبل»، فالسؤال على قصر قامته «يُمْلي نبشَ الحياة السياسية بطولها وعرْضها».
يقرّ الوزير، الذي لا يهوى اللف والدوران، بـ «إننا في نفق مظلم... إلى أين سيؤدي؟ الله أعلم»، لكنه يؤكد «أنا في طبعي متفائل، ونحن في الداخلية وفي الحكومة نعمل من أجل عبور هذا النفق الصعب لإخراج لبنان من أسوأ أزمة تواجهه»، متمنياً «تَجاوُز المأزق الخطر بإذن الله».
يدرك فهمي، الستيني الذي أمضى أكثر من نصف عمره في الجيش، أن الخروج من الحفرة السحيقة يصعب أن يتم بالتمنيات... أزمةٌ ماليةٌ، أزمةٌ اقتصاديةٌ، أزمةٌ سياسيةٌ، أزمةٌ في علاقات لبنان الخارجية، فماذا فعلت الحكومة لكبْح الانهيار واستعادة ثقة الخارج؟
بلا تَرَدُّد يكمل رسْم اللوحة الداكنة، ويقول: «نعم، نعيش أزمات نقدية، معيشية، صحية تُلْقي بأثقالها الموجعة على يوميات اللبنانيين».
وعلى عكس مكوّناتِ حكومته التي ترمي المسؤولية على الـ 30 عاماً الماضية، في إدانةٍ لـ«الحريرية السياسية»، فإن الوزير الذي يقدّم نفسَه على أنه مستقلّ يرى «أن ما نشهده هو وليد تراكمات لمنظومةٍ سياسية تمتدّ لما قبل الـ 1975 (أي الحرب في لبنان) ولم تكن الأوضاع الأخيرة سوى النقطة التي فاض بها الكأس».
وفي اعتقاد الجنرال فهمي، الذي قال عنه البعض يوم تَسَلُّمه الداخلية إنه «أخطر وزير» ورأى فيه آخَرون أنه «الأكثر آدميّة»، أن الحل كما يراه «ولا حل سواه هو أن يجتمع مخيّما الموالاة والمعارضة تحت خيمةٍ واحدة، خيمة إنقاذ لبنان، على أن يضعوا خلافاتهم خارجها على غرار ما يَجْري في كل دول العالم عندما تكون البلاد مهدَّدة».
ورغم الصدق الذي يميّز إطلالاته، وهو الذي يحرص على القول إنه يُعْلي القانون وغالباً ما يبوح بما له وما عليه، فإن المرء يشعر في الحديث مع الوزير - العميد بأن تجربةَ أشهرٍ في الحكومة جعلتْ في فمه ماء أو ربما ان «التضامن الوزاري» يُمْلي شيئاً من الديبلوماسية أو لأن حكي السرايا غير حكي القرايا.
فالحلّ، في رأي فهمي «يتجاوز الحكومة التي مدّتْ يدَها للجميع من دون استثناء، ويكمن في خروج الأحزاب من صراعاتها ورهاناتها والجلوس معاً للتفاهم على سُبل مجابهة الأزمة الهائلة التي نعانيها، وفاقَمَ كورونا من وطأتها، فليأتِ الجميعُ إلى كلمة سواء لا لإعادة لبنان إلى سابق عهده بل للنهوض به على النحو الذي يليق بشبابه وشاباته».
ولأنه يصعب تَجاهُل البُعد الإقليمي لما آلتْ إليه أزماتُ لبنان، نسأل الوزير عن المانع من تعديل الموقف الرسمي على النحو الذي يستجيب لدعواتِ «النأي بالنفس» كممرٍّ لا مفر منه لمساعدة البلاد على الخروج من هذه المحنة التاريخية، فيجيب بصراحته المعتادة: «النأي بالنفس أو الحياد الذي يكثر الحديث عنه اليوم، المقصود به فئة كبيرة من المجتمع اللبناني، أليس كذلك»?
«المقصود هو أن يُعْلي الجميع في الداخل مصلحةَ لبنان على أي مصالح إقليمية»، قُلْنا لمعاليه الذي يكرّر «الحلُّ الوحيد جلوس الجميع إلى طاولة واحدة والتوافق بين الأحزاب والكتل... لبنان بلد التفاهمات التي من دونها سنمضي في النفق المظلم، فليتركا (الموالاة والمعارضة) مخيّميْهما ويأتيا إلى خيمة التوافق السياسي». وهو لا يملك وصفةً جاهزة لمثل هذا التوافق، ففي رأيه «المهمّ أن يتفقوا».
لا إصلاحات يُعتدّ بها ولا نأي بالنفس، أقلّه من الحكومة، فمن أين سيأتي الفرَج؟ نسأل فهمي، الذي عاجَلَنا بالقول: «سؤال جيد، لكن علينا أن ندرك أن لبنان هو وطن من مجتمع ومؤسسات كسائر الأوطان، وتالياً لا يمكن بأي شكل أن تنأى الحكومة بنفسها إلا بتوافُقِ فئات المجتمع... لا يمكن أن نكون مع 50 في المئة وضدّ الـ50 في المئة الأخرى، بمعنى آخَر لا بد من التوافق للوصول إلى نتيجة».
«إنها وجهة نظر»، بهذه العبارة اختار الوزير وصْف الكلام الذي تردّد أخيراً عن أنه لماذا يحتاج الحياد إلى تَوافُق وطني، فيما التورّط في نزاعات المنطقة وصراعاتها لا يحتاج إلى تأشيرة مرور وطنية هو الذي يرتدّ سلباً على لبنان وعلاقاته مع الدول الصديقة والشقيقة، فـ «الحلّ للنأي أو المواجهة لا يمكن أن يأتي إلا بالتوافق بين مكوّنات المجتمع اللبناني كافة».
إذا كان الملف الإستراتيجي المرتبط بتموْضع لبنان الإقليمي يحتاج إلى بنى سياسية من التوافقات، ربما الصعبة، في الداخل، فما الذي يمنع إطلاق إصلاحات جدية لاستعادة الثقة بالدولة، في الداخل والخارج على حد سواء؟
... يردّ الوزير «السياسي - الأمني» بأنه «يمكن هدْم مبنى من 100 طبقة في دقائق، وربما في ساعة، لكن معاودة تشييده تحتاج لسنوات... ما نحن عليه اليوم هو حصيلة لسلوك منظومة تمتدّ إلى ما قبل الـ 1975، وتالياً أي حكومة ومهما كانت مكوّناتها، فإنها تحتاج لأشهر وأشهر لإطلاق الإصلاحات وإنجازها».
وفي تقديره أن «ثمة إصلاحات أساسية ينبغي السير بها، وخصوصاً في الكهرباء والقضاء والمشتريات العامة في الدولة والنظام المصرفي»، لافتاً إلى أن «الحكومة باشرت العمل في هذا الاتجاه وسط ورشة اجتماعات مفتوحة تعوقها أحياناً الظروف الناجمة عن كورونا».
بدا معاليه وكأنه يضع الإصبع على الجرح في عرْضه للعناوين التي تشكل مَدْخلاً للإصلاح، وتالياً كان لا بد من أن نسأله عن «القطبة المخفية» في قرار الحكومة تكليف شركة دولية للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وتَجَنُّب التدقيق في ملف الكهرباء مثلاً الذي استنزف أكثر من 40 مليار دولار من خزينة الدولة.
سريعاً قاطَعَنا الوزير مصحِّحاً «48 مليار دولار وليس 40 ملياراً»، وهو ينفي تماماً ما يشاع عن أبعاد سياسية للتدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي: «أكيد ما من تصفية حسابات سياسية مع أحد، والجميع يريدون التدقيق. وجلّ ما في الأمر أن مصرف لبنان هو المعني بضخّ الأموال، ومن خلاله يمكن أيضاً معرفة في أي اتجاه ذهبتْ الـ 48 مليار دولار للكهرباء»، مضيفاً: «إذا اقتضى الأمر اللجوء إلى تدقيق جنائي - مالي في ملف الكهرباء، فليكن»، معتبراً «أن الذهاب إلى المنبع (المصرف المركزي) من شأنه كشف ما حصل في الكثير من المؤسسات التي ربما عانت فساداً أو مُنيت بسوء إدارة».
المفارقة التي ميّزتْ جلسة مجلس الوزراء التي أقرّت تكليف شركة دولية (ألفاريز أند مارسال) التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان أن وزراء «الثنائي الشيعي» أي «حزب الله» وحركة «أمل» صوّتوا بثلاث أوراق بيض تَحَوُّطاً من شبهةٍ ما ترْبط هذه الشركة بإسرائيل... فهل هؤلاء الوزراء أكثر وطنية من معاليكم؟
رغم أن الوزير الآتي من المؤسسة العسكرية لسان حاله الدائم أن ما من عدوّ له إلّا إسرائيل، بدا مسروراً بالسؤال «الحلو كثير» بقدر ما كان منْزعجاً مما جرى، وهو كشف «لقد شعرتُ بضيق كبير وكأننا نحن لسنا وطنيين»، آخِذاً على هذه المقاربة افتقادَها إلى الموضوعية فـ «كل الشركات والمؤسسات الدولية لها فروع ووجود في إسرائيل».
ويحرص وزير الداخلية على «الوسطية» في موقفه من التشكيلات القضائية التي بَصَمَ عليها بالعَشرة مجلس القضاء الأعلى وامتنع عن إمرارها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهو يقول «كان ينبغي ألّا تقتصر تلك التشكيلات على 80 في المئة من المراكز وأن تكون مكتملة، ورغم ذلك فإن هذا الملف يشكّل نقطة سوداء في سجلّ الحكومة».
ولأن لبنان يحْبس أنفاسه مع العدّ التنازلي لصدور الحكم في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في 7 أغسطس المقبل، حاولْنا الوقوفَ على كيفية ملاقاة «الداخلية» والحكومة لهذا «الاستحقاق» البالغ الحساسية، فلم يشأ الوزير فهمي القول أكثر من «دعونا ننتظر إلى حينه»، مؤكداً «نحن حكومة نمثّل الدولة وننفّذ القوانين».
وفي غمرة هذه الانتظارات الثقيلة كان المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم حَمَلَ رسالة من الرئيس عون إلى كبار المسؤولين في الكويت، في سياق اتصالاتٍ مع عواصم عدة لعرْض المصاعب التي يواجهها لبنان، لعلّ في الإمكان إحداث كوّة في جدار الأزمة... «اللواء إبراهيم يحاول»، يقول فهمي «والأجواء إيجابية. ثمة حلْحلة يمكن أن تضخّ شيئاً من الأوكسجين في واقعنا الحالي، وربما تمكّننا من إحداث كوةٍ في الجدار، نعم إنه جدار اسمنتي مسلّح لا بد من إرادة سياسية لكسْره».
ولأن الإدارةَ السياسية تحتاج مبادرةً، سألْنا وزير الداخلية عما إذا كانت الحكومة تنوي الدعوة إلى حوار بعدما تحوّل مطلب «حياد لبنان» كرةَ ثلجٍ، فقال: «حتى الآن لا... وعموماً أتمنى ذلك، وكوزيرٍ للداخلية أرى أن من الخطوات الإنقاذية التي يجب أن نعتمدها اليوم الحوار بين جميع الأحزاب السياسية الوازنة وغير الوازنة، أي بين الجميع من دون استثناء».
وفي نهاية اللقاء مع وزير الداخلية شاء أن يخاطب الأشقاء الخليجيين عبر «الراي»، وقال: «لا يمكنني توجيه الكلام إلى الدول الأجنبية، لكنني حريص على مخاطبة الأشقاء العرب، لاسيما الإخوة في دول الخليج، السعودية، الكويت، الإمارات والأشقاء الآخرين».
ويذكّر بأنه «إبان غزو العراق للكويت كان لأحد اللبنانيين شرَفَ القيام بأول عملية ضدّ الاجتياح. والعلاقةُ مع الإخوة الكويتيين علاقة توأم، وكذلك الأمر مع الإخوة السعوديين والإماراتيين»، لافتاً إلى أن «نحو 800 ألف مواطن لبناني يعملون في دول الخليج»، ومتمنياً على «هذه الدول التي سارعت إلى معاودة إعمار لبنان بعد عدوان الـ2006 وشكّلت على مدار التاريخ شرياناً حيوياً للبنان ألّا تتركنا، فنحن بحاجة لإعادة المياه الصافية إلى مجاريها. ونعم بحاجة لمساعدتها ومن دونها لا يمكننا النهوض من الكبوة التي نعانيها».