بلا حدود

(مسدودة)...

تصغير
تكبير

يحكى أن والياً أراد أن يتفقد مدينته ليلاً؛ فأمر بحظر التجوال وإطفاء الأنوار، وأثناء سيره مع موكبه في شوارع المدينة لمح من بعيد بصيص نور خافت، فاستغرب لعدم الانصياع لأوامره، فذهب إلى مكان هذا النور وإذا بشيخ حالته مزرية انتابته رعشة خفيفة، يندب حظه المنكود قائلا:» مسدودة .. مسدودة .. مسدودة ...». قال له الوالي: ألم تسمع أوامري بإطفاء جميع أنوار المدينة؟! لم يلتفت إليه الشيخ وظل يردد (مسدودة...)، أخذ الفضول الوالي فجلس بالقرب منه وقال له: ما حكاية (مسدودة، وماذا تقصد بها؟)، رفع الشيخ رأسه ونظر نظرة يأس وقال للوالي: وإن قلت لك ماذا أنت فاعل؟ فرد الوالي بحزم: قل وسوف ترى أفعالنا.
قال الشيخ: حلمت في منامي بأنني أتجول مع أحد ملائكة السماء في جنة الأرزاق، وإذا بها عيون وينابيع وشلالات، قال ملاك السماء هذه أرزاقكم في الدنيا؛ انظر هذا الشلال هو رزق التاجر الفلاني، وهذه العين هي رزق رئيس الدائرة الفلانية، وهذا الينبوع المتدفق هو رزق لأحد حاشية الوالي، وهكذا كما ترى كل واحد برزقه. فقلت له: وأنا أين أجد رزقي؟، قال لي: ما اسم أمك؟ فأعطيته اسم أمي، فبحثنا هنا وهناك في جنة الأرزاق وإذا بينبوع صغير جداً يبقبق بأربع قطرات من الماء؛ فقلت له هذا صحيح فأنا أكسب يومياً أربعة دراهم من مهنة غزل الصوف، تكفيني يوما كاملاً، وفجأة لم أجد ملاك السماء موجوداً في جنة الأرزاق فسولت لي نفسي الأمارة بالسوء بفكرة توسعة رزقي، فأخذت عوداً من شجرة وأدخلته في فتحة الينبوع لتوسعة الفتحة فانكسر العود داخلها وانسدت فتحت الينبوع؛ فاستيقظت مفزوعاً من نومي بعد هذا الحلم ومنذ أكثر من شهر ذهبت الأربعة دراهم ولم يعد يأتني أي زبون لغزل صوفه؛ فأصبحت عالة على الناس يتصدقون عليّ أكلاً وشرباً، نهض الوالي وقال للشيخ سننظر بأمرك شريطة أن تكف عن تردد كلمة (مسدودة).
أمر الوالي عامله بأن يذهب إلى هذا الشيخ ويعطيه دجاجة محمرة محشوة بدنانير من الذهب الخالص، ذهب عامل الوالي للشيخ وقبل أن يدخل عليه لمحه جار الشيخ تاجر البيض الجشع وما أن خرج عامل الوالي من عند الشيخ بعد أن سلمه الدجاجة المحشوة بالذهب الخالص حتى دخل عليه الجار، وقال للشيخ ماذا أنت فاعل بهذه الدجاجة ستأكلها في يوم واحد وترجع كما كنت أنا سأشتري منك هذه الدجاجة بمبلغ يكفيك أسبوعاً كاملاً أكلاً وشرباً، فاستحسن الشيخ الفكرة وباعه الدجاجة. بعد مرور أسبوع أمر الوالي عامله ليتفقد أحوال الشيخ، فعاد العامل للوالي بأن حال الشيخ على ما هي عليه من البؤس، ومازال يردد (مسدودة)؛ استغرب الوالي وأرسل له بطة محمرة محشوة بدنانير من الذهب الخالص، وتكررت القصة مع جاره الجشع، ثم أرسل خروفاً مشوياً محشواً بدنانير من الذهب الخالص، وأيضاً تسلط الجار الجشع على رزق هذا الشيخ المسكين، ومازال يقول ويردد (مسدودة... مسدودة).


غضب الوالي وأمر بإحضار الشيخ، فجاءوا بالشيخ يجرونه جراً، وامتثل أمام الوالي، فصرخ الوالي في وجه الشيخ قائلاً: أرسلت لك كذا وكذا وكذا، ومازلت تردد (مسدودة )؟! فاستغرب الشيخ وحكى للوالي ما جرى معه، وكيف تصرف جاره الجشع بخبث ودهاء. أمر الوالي باعتقال هذا الجار الجشع وزجه في السجن، كما أمر بصرة مليئة بالذهب الخالص للشيخ، فرح الشيخ واحتضن الصرة بكلتا يديه وضمها الى صدره، فقال له الوالي: الآن أخبرني ماذا ستفعل بهذا المال؟ تبسم الشيخ وقال للوالي: سأفتح مدرسة لغزل الصوف وأشتري بيتاً بالقرب منها وأتزوج امرأة صالحة وأعيش ميسور الحال... وأثناء خروج الشيخ من قصر الوالي تعثر في نزوله من الدرج وسقط على رأسه وتناثرت الدنانير الذهبية من الصرة، ومات الشيخ، تسمّر الوالي في مكانه وجاءه طيف اخترق مسامعه قائلاً: (نحن أردناه فقيرا وأنت أردت أن تغنيه، الآن نحن أمتناه فهل باستطاعتك أن تحييه) انتهت الحكاية.
الواحد منا يريد أن يكون كل شيء وزيراً وأديباً ومفكراً ومثقفاً ومبتكراً... إلخ، وفي النهاية يكتشف أنه لا شيء، إلا ما كتب الله وقدره له؛ لو كل واحد منا قام بوضع جهاز قياس الطول في بيته قبل أن يخرج صباح كل يوم يقيس طوله، لما تعبنا في حياتنا اليومية ومتنا قهرا وكمداً.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي