علي الرز / عذاب القبر

تصغير
تكبير
| علي الرز |
لم أعد أحصي عدد القنابل التي تتساقط قربنا في حي الزيتون. توقفت عن ذلك بعدما سمعت الصوت الاخير الذي هز المطبخ حيث اختبئ، وبعدما شعرت بوخز قوي انطلق من رقبتي واخترق رأسي. لم اعد احصي ولم أعد اسمع اي صوت سوى هدير التكبيرات من الذين استطاعوا التسلل الى منزلنا خلال «هدنة» بين قذيفتين.
«الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، حسبي الله فيكم يا مجرمين يا قتلة، اندهوا الاسعاف بسرعة»... اسمع وانا على شفا انتقال من دنيا الى اخرى هدير الشجعان الاوفياء محاولين انقاذ ما يمكن انقاذه. «وكيف نتصل بالاسعاف؟ ومن يرد ؟ وهل يجرؤ احد على عبور الشارع؟ صلي عالنبي يا زلمي واحملهم معي الله بيعين، بناخدهم على ضهورنا واحد واحد للشارع التاني وهناك الله بيدبر».

ما زلت استطيع ان اتذكر انني محمول على ظهر خالي ابو احمد فيما سبعة رجال يحملون سبعة قتلى او شبه قتلى. المرحلة الاولى جمعونا فوق بعض عند مدخل الدرج في مساحة صغيرة جدا. تذكرت كم مرة نزلت انا وعائلتي الى المدخل نفسه خلال القصف المتقطع او الاعمال العسكرية الخاطفة، وتذكرت السلم الطويل وكم مرة صعدت درجاته ونزلت وانا أحمل في يدي وعلى ظهري مئات غالونات المياه بسبب انقطاعها واضطرارنا لتعبئتها من قسطل في آخر الشارع. تذكرته وانا احمل عبوات الغاز واحيانا الكاز اذا انقطع الغاز. تذكرته وانا احمل الخبز واحرص عليه كمن يحمل حقيبة مال يخشى ان تسرق بسبب ندرة الطحين. تذكرته وانا ازور السطح املا بمغازلة ابنة الجيران وهي تغسل على السطح المقابل في «الطشت» بسبب انقطاع الكهرباء المستمر... وتذكرت خالي ابو احمد الذي حملني للتو نزولا وانا على شفا انتقال من دنيا الى اخرى وكيف حمل اختي في شهرها التاسع من الطبقة السادسة الى سيارته ثم الى مستشفى الولادة، ثم كيف «لمع» ظهره واضطر الى النوم بلا حراك مدة شهر كامل. وعندما كنا نداعبه بأنه صار عجوزا كان يرد: «الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك». حمل ابو أحمد اختي لأن زوجها اسير في السجون الاسرائيلية وها هو يستعيد ما بقي من قوة في ظهره ليحملني شبه جثة ويضعني برفق فوق جثث اختي ووليدها وامي وابي وشقيقاتي الثلاث. «الله يعافيك يا بو احمد الله يعافيك، فعلا الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك».
نحن الآن كومة جثث او شبه جثث. باقة من ضحايا جديدة. تلة صغيرة من اجساد واشلاء. مزار صغير تنظر اليه بعينين دامعتين ولسان يلهج بالدعاء والذكر.لا يميز جليسنا بين زفرة الموت والنفس المقاوم الراغب في استعادة الحياة. ينتظرون انجلاء غبار القصف لنقلنا الى الشارع المجاور كما يسحب العسكري المحترف جرحاه وقتلاه الى ارض آمنة، مع الفارق ان العسكري مجهز بتغطية جوية وارضية ومروحيات وسيارات اسعاف مصفحة فيما نحن مجهزون بظهور الاقارب والجيران وعربات الخضار الفارغة والواح الخشب.
قصف قصف قصف، قنص قنص قنص... يصرخ حملة الجثث الى مدخل الدرج مع كل صوت دوي او ازيز. ابو احمد يغرد خارج سربه. يجلس على عتبة صغيرة ويتمتم: «قهر، قهر، قهر. احتلوا الارض، حرمونا من العمل والاسترزاق، قطعوا المياه والكهرباء والمواد الغذائية، اقفلوا المعابر، منعوا عنا الجو والبحر وها هم بقذائفهم الفوسفورية الحارقة يمنعون الهواء. وفوق ذلك كله يريدون اذلالنا حتى في دفن موتانا. القهر يكسر الظهر».
بعد اعتراف ابو احمد بوجود شيء يكسر ظهره، هدأ القصف قليلا. حملونا مع كل ما يتدلى منا الى الشارع المجاور ووضعونا جميعا في سيارة اسعاف واحدة الى المستشفى. زحمة غير طبيعية ولا وقت للنقاش او الشرح. الشهيد الى المشرحة والجريح الى السرداب. طبعا من مات سريريا ولم تعد خلاياه تعمل لن يعطى فرصة للمحاولة، ومن يصر على البقاء سيخسر مكانه في المشرحة... اذا كان له مكان اصلا.
هناك في المشرحة يفتح العامل ابواب الثلاجات لأبي احمد الغاضب المطالب باستراحة لائقة لنا في المرحلة الانتقالية. يريه كيف يضع كل ثلاثة او اربعة فوق بعضهم. يغسلوننا في ركنين على البلاط تفصل بينهما ستارة سوداء. نفترق هنا انا وابي للمرة الاولى منذ بدء المعارك عن امي وشقيقاتي. يلفونني بالكفن وينقلونني الى مكان آخر جاف لأتجاور مع عشرات الغزاويين المنتظرين «هبة» اسرائيل بوقف اطلاق النار ثلاث ساعات يوميا لدفن من استشهدوا بنارها.
في الطريق الى المقبرة مشكلة اخرى، فلا اماكن تكفي ولا مجال لـ «ترف» المطالبة بتنظيم الدفن حسب التسلسل العائلي. نزلت في حفرة واحدة مع آخرين. لم تمنعني الزحمة من استعادة الشريط المرعب الذي قادني الى التراب.عرفت كيف وصلت الى هنا ومن اين لكنني لا اعرف من هنا الى أين. ما انا متأكد منه ان عذاب القبر لن يكسر الظهر مثل عذاب القهر... والضربة التي لا تكسر ظهرك تقويك.
alirooz@hotmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي