دموع طبيب في ليلة العيد

تصغير
تكبير

اليوم، ونحن في أول أيام عيد الفطر السعيد أعاده الله عليكم وعلينا بالخير واليمن والبركات، نقول لكم عيدكم مبارك وعسى أيامكم كلها سعيدة وتقبل الله طاعتكم وصيامكم وقيامكم.
في شهر رمضان هذا الذي نودعه افتقدنا الكثير... افتقدنا تجمعاتنا العائلية... افتقدنا سوالفنا... مناقشاتنا... ضحكنا ونجرتنا. افتقدنا دبچة الأسواق في استقباله، مثلما افتقدنا دبچة الأسواق في وداعه استعداداً لملاقاة العيد السعيد. افتقدنا الدواوين والمقاهي واللوية والحوسة... افتقدنا المباركية وسكيكها... افتقدنا حنتنا على الخياط لتحضير ملابس العيد... افتقدنا البحث عن النعل النجدية والمسابيح الصغيرة لأبنائنا... افتقدنا مهرجانات الدراريع بألوانها المزركشة المليئة بالحياة للكبيرات والصغيرات... افتقدنا البخانق وتقرقش مضاعد الذهب في سواعد الصغيرات...
بل حتى الأذان الذي نعرفه افتقدناه وسمعنا عوضاً عنه الأذان الذي لم نسمعه من قبل... هلت دموعنا من مآقينا ونحن نسمع «يا عسى صمت المساجد ما يطول»... شعرنا بألم حبس الحرية، بألم البقاء القسري في البيت، شعرنا بألم افتقاد الكثير مما اعتدنا على فعله.


اليوم يهل علينا العيد، عيدٌ ورائحة المعقمات تطغى على روائح العود والبخور فيه؟... عيد والكمامات تنافس الغترة المعفوسة على رؤوس الأطفال؟... كمامات تغتال ابتسامتهم وتخفي عنا جمال ضحكاتهم... يا إلهي... ما هذا الذي يحدث.. نجنا منه يا أرحم الراحمين.
في خضم تفكري في كل ما سبق، تلقيت اتصالاً من صديق عزيز... طبيب كبير عمراً وعلماً ومقاماً... طبيب لم تغادر الحيوية صوته منذ عرفته... ولكن، بالأمس سمعت صوته منكسراً للمرة الاولى منذ عرفته... حشرجة بكاء وأنفاس مضطربة... اسمعني يا وليد... هكذا بدأ حديثه معي، فاكتشفت بعد قليل أن كل ما سطرته من المعاناة في مقدمة هذا المقال ما هي إلا نقطة في بحر معاناة الأطباء والجيوش المحاربة لوباء كورونا في الصفوف الأولى.
طبيب بمقامه ومكانته وقوته ينهار كما الأطفال... ويبكي! يشكو وأنا أسمع نحيبه من ألم الضغط النفسي والخوف من سقوط المنظومة الطبية... والخوف من الخذلان!... لا تستغرب يا وليد... قالها ليكسر حاجز الذهول الذي أخرسني... ومضى يقول... نحن بشر ضعاف مهما تظاهرنا بالقوة... بعيدون عن أبنائنا منذ أسابيع خوفاً عليهم... بعيدون عن زوجاتنا منذ أسابيع خوفاً عليهن... بعيدون عن أهلنا وأصحابنا، بل وعن حياتنا كلها... نعمل في كل وقت، نصل الليل بالنهار ونواجه الخطر في كل يوم، بل كل ساعة وكل لحظة... نحن بشر ولنا طاقة وقدرة على التحمل. الأرقام تتصاعد والعمل يتزايد والانهيار يلوح في الأفق... نبذل أضعاف ما يبذله الإنسان الطبيعي لنمنع هذا الانهيار... نسينا عوائلنا وأسرنا وراحتنا... حتى النوم نسيناه ولا يزورنا إلا مجبرين عندما نصل حافة الانهيار البدني ونوشك أن نسقط! كل هذا لنمنع انهيار المنظومة الصحية... فلا يزايدوا علينا سياسياً الآن... ولا يلعبوا معنا لعبة الانتخابات الآن... فهذا ليس وقتها ولا وقتهم... وإن لم يقدروا على دعمنا نفسياً ومعنوياً، فلا يكونوا معولاً يهدم ما بقي من قدرتنا على التحمل.
طأطأت برأسي، وخجلت من نفسي كثيراً وأنا أسمع هذا الكم من المعاناة... وحمدت الله كثيراً على آلائه ونعمه... وأقولها لكل طبيبة ولكل طبيب... لكل عسكري ولكل موظف ولكل من بذل نفسه ووقته وطاقته لمواجهة هذا الوباء كبيراً كان أو صغيراً... بجهودكم فقط يمكن أن نستعيد كل ما فقدناه... فشكراً لكم، أنتم على رؤوسنا... سامحونا على القصور... وعيدكم مبارك.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي