| علي الرز |
لا شك في ان كل ما يجري في غزة اليوم هو وصمة عار متعددة الجنسية والاتجاه. جريمة انسانية كبرى الاكثر ايلاما فيها انها «وجهة نظر» في اعتبارات البعض او في افضل الاحوال مصدرا ملهما لتنديد لغوي تضامني لا ينقذ ولا يغني عن المأساة. وربما كانت المرة الاولى في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي التي تستبيح فيها اسرائيل ارضا عربية بهذا الشكل وتمارس فوق ركام مبانيها كل طقوس العربدة وتكرس بأشلاء ضحاياها اساليب اجرام جديدة تصل الى حدود المحرقة والابادة... فيما العالم بأسره ينتظر تغيير معطيات على الارض. يأسف وفي قلبه بعض التمني بأن تنجز اسرائيل مهمتها سريعا. يندد لكنه لا يخجل من الجهر بضرورة تواصل العمليات العسكرية لاعادة المقاومين الى بيت الطاعة. يتحرك لكنه لم يكن واضحا كما هو اليوم في الانحياز الى القاتل وكأنه يكمل بالسياسة في نيويورك ما بدأته «المركافا» في جباليا.
قبل غزة، لم تترك اسرائيل وسيلة لاذلال القطاع واخضاعه الا ومارستها. هذه هي نقطة البداية كي لا تضيع البوصلة ونضيع معها، فاسرائيل التي اعادت بعض الاراضي العربية بموجب اتفاقات السلام اعتبرت انها خسرت بالمفاوضات ما ربحته بالحرب. جزأت مسارات العملية السلمية ولم تجد صعوبة في توصيف معاركها وتصنيفها مستفيدة من التطورات الدولية، فهذا الفصيل ارهابي وذاك فاقد للشرعية وثالث عاجز ورابع له امتدادات اقليمية وخامس لا يؤمن بالسلام وسادس لا يعترف باسرائيل. وافق الاسرائيليون بمختلف انتماءاتهم على ما قاله لهم بنيامين نتانياهو في مشروعه الذي اخذ شكل كتاب من ان ما «اعطي» للعرب يكفي لان الدولة التي كانت تحارب خارج ارضها منكفئة وقد تضطر الى القتال للبقاء في تلك الرقعة الصغيرة نسبيا بين الضفة والقطاع. لم تكن الحرب تحتاج الى حجة فالحجج جاهزة وسفينة السلاح التي ضبطت كفيلة بتدمير مطار السلطة ومراكزها ومرافقها ومؤسساتها وحصار رمز القضية الفلسطينية ياسر عرفات حتى الموت... ولم تكن «حماس» آنذاك تطلق الصواريخ او مطلقة اليد في السيطرة على غزة.
وقبل غزة لم تترك الفصائل الفلسطينية وسيلة لاثبات عدم قدرتها على الارتقاء من منطق الميليشيات والثورة الى منطق الدولة الا ومارستها، وهذه نقطة مركزية ايضا كي لا تضيع البوصلة ونضيع معها. اخطاء وخطايا وانقلابات ومجازر ارتكبها فلسطينيون ضد فلسطينيين وفساد وسرقات وسوء ادارة وارتباط حقيقي وفعلي بمحاور في المنطقة.
وقبل غزة حاول بعض العرب جمع السلطة الوطنية الفلسطينية و«حماس» على مشروع توافقي للتصدي لاي عمل اسرائيلي بموقف موحد. حصل ما حصل واستمر تبادل الاتهامات واكتظت السجون الفلسطينية هذه المرة بمعتقلين من «حماس» و«فتح». وقبل غزة قدم بعض العرب مشروعا لهدنة طويلة الامد تقضي بوقف كل الاعمال العسكرية ورفع الحصار وتبادل الاسرى وقيام حكومة توافقية تعيد للشرعية الفلسطينية قبولها داخليا وخارجيا وتتفق مع الدول الاقليمية على صيغة لفتح المعابر ولو اقتضى الامر وجود مراقبين دوليين ثم يعود الجميع الى مسار العملية التفاوضية... لكن هذا المشروع كان موضع رفض من «حماس» وغير «حماس».
ما بعد غزة واقع آخر. لن تربح اسرائيل في معركة القضاء على المقاومة شعورا وفعلا وتقدما فما فعلته لا يؤدي الى تعميم المقاومة خصوصا في ظل العجز والقهر، ولن تواصل «حماس» رفضها لمشروع الهدنة الذي كان مقترحا مع اضافة بعض التعديلات اذ لا بد من وقف حرب الابادة التي يدفع المدنيون بشكل اساسي ورئيسي ثمن اندلاعها.
وما بعد بعد غزة، لن تتغير اسرائيل بل ستزداد تمسكا بان ما اعطي للعرب كاف وما يعطى لاصحاب الارض والحق «خطر»، فشبه دولة بشبه سلطة ادخلت هذا الكم من الاسلحة تهريبا وخلسة... والدولة ان لم تكن بلا انياب فلن تقوم. هذه هي اسرائيل التي رضي العرب بالتخلي عن حقوقهم من اجل سلام معها ولم ترض هي ولم تتأسس فيها غالبيات شعبية ونخب سياسية مؤمنة فعلا بمبدأ الارض مقابل السلام... ومن حاول بناء هذه الغالبية قتل وهو يغني للسلام.
وما بعد بعد غزة، لن تتغير الفصائل الفلسطينية بل ستزداد انقساما في المستقبل وان اضطرت راهنا الى هدنة شكلية و«ديكور» توافقي، فثقافة التصنيف والتخوين والاخراج من الوطنية والدين ستسود بقوة، وسينبت الى يمين التنظيمات الرئيسية الموجودة حاليا والى يسارها كتائب جديدة ومنظمات جديدة ورؤى جديدة تتغذى مما حصل وتترجمه على الارض بعنف ما دام للجهاد والنضال والمقاومة توصيفات مستحدثة متغيرة وما دامت لـ «العدو» عناوين اخرى... وايضا مستحدثة ومتغيرة.
ما قبل غزة وما بعد غزة وما بعد بعد بعد غزة... صورة طفلة رائعة الجمال كأنها الملاك. استشهدت لكنها لم تمت. عيناها مفتوحتان تنظر الينا بسماحة وهدوء، تأسى لحالنا، لعجزنا، لعرينا، لفشلنا، لأخطائنا، لصمتنا.
ما قبل غزة وما بعدها صورة واحدة... حقيقية.
alirooz@hotmail.com