مثقفون بلا حدود
السجين (4 من 4)
تشجع أبوعبدالوهاب أمام زوجته - لا سيما - وأنه قد سمعها تناديه باسمه (ياعيسى)، وأيضا أمام موظف الخدمة، ولمح ابنته نادية المنزوية في زاوية الصالة تسرح بذكرياتها، فتارة تبتسم وتارة تعبس، تتلألأ الدموع في مقلتي عيونها السوداء الجميلة، آلمه كثيراً منظرها ووصولها إلى هذه الحالة، خرج أبوعبدالوهاب ليرى مَنْ الطارق.
- أهو... امشي أنت جدامي خل نشوف منو هاللي ياينا نص الليل.
وقبل أن يصل إلى الباب بثلاثة أمتار تقريبا حتى سمع أحدهم يقول:
- عمي بوعبدالوهاب... عمي بوعبدالوهاب...
ذهب الروع عن أبي عبدالوهاب، وتفتحت أسارير وجهه، وأسرع بخطواته قليلاً متقدماً على عامل الخدمة، وفتح الباب بنفسه وهو يقول بفرح:
- ها... هذا خالد رفيج عبدالوهاب بالشغل... هلا... هلا بولدي خالد... خير إن شاء الله.
خالد أحد المهندسين الشباب حديث التخرج ضمن المجموعة التي يرأسها المهندس عبدالوهاب في شركة النفط، وهو شاب وطني مخلص في عمله يسكن ضاحية النزهة وهي جارة ضاحية عبدالله السالم، التي يسكن فيها عبدالوهاب، وكان برفقة رجل أكبر منه صامتاً لا يتكلم.
- عمي منين إيينا الخير وهالعراقيين غزونا بجيشهم، واغدروا فينا بنص الليل وحنا نايمين ودشوا الديرة بدباباتهم ومدرعاتهم، وقبل لا يوصلون حق شركة النفط نبي نلحق ناخذ كل المعلومات إللي بالشركة ونخشها.
- أبوعبدالوهاب سهم وجحظت عيناه، ووضع يده اليمنى على حنكه، محدثا نفسه باستغراب وهو يردد بصوت خافت أقرب إلى الهمس:
- العراقيين غزونا... العراقيين غزونا... ليش اسوينا لهم؟!... هذا وحنا مادين يد العون لهم، وخلين شي ما عطيناهم إياه... ما بقى شي ما خذوه منا... فلوس وتبرعات وذهوبات بعد ما بقى إلا نتفصخ ونعطيهم ثيابنا إللي علينا، انت من صجك يا خالد معقول هالحجي إللي تقوله... إييه... قلتلك يا عبدالوهاب مو أهل الديرة إللي يسون جذي.
ثم أفاق من هذا الهذيان.
- إي ولدي بس أنا شيطلع بيدي، روحوا الشركة واخذوا إللي تبونا.
- نبيك بسرعة تودينا حق عبدالوهاب علشان نطلعه من السجن، وناخذه معانا لأن هو إللي يعرف كل صغيرة وجبيرة عن الشركة والأجهزة.
- إي بس...
- عمي تكفى هذه الديرة لا تضيع من إيدنا.
- زين يا ولدي بس امهلني خمس دقايق أبدل ثيابي...
- عمي الله. الله يخليك بسرعة قبل لا يوصلون حق السجن.
- إن شاء الله... إن شاء الله...
أبوعبدالوهاب مسرعا إلى الداخل تلقفته أم عبدالوهاب قائلة:
- خير إن شاء الله تكفى بوعبدالوهاب لا تعطيهم ولدي... رجيتك وطلبتك...
عبدالوهاب ينظر إلى والده، ووالده ينظر إليه وكأن هناك رسالة مشفرة بينهما، فهم عبدالوهاب من خلالها بأن هناك حديثاً خاصاً سوف يكون بينه وبين والده، فأعاد قدمه اليمنى وابتعد عن السلم خطوة، تجاهل أبوعبدالوهاب توسلات الأم، وذهب مباشرة إلى ابنه ووضع يده على كتفه وذهب به إلى غرفة نومه، دخل الابن أولاً ثم دخل الأب، وأجريا حديثاً قصيراً جداً، خرج عبدالوهاب مهرولاً وسط صيحات الأم وبكائها وتوسلاتها.
- وين رايح عبدالوهاب يمه وين رايح ليش جذي يا عيسى ليش اتخليه يروح.
خرج عبدالوهاب تعانق مع خالد ومع الرجل الآخر الصامت.
- هلا والله بوليد الغالي شلونكم شخباركم.
خالد متفاجئاً!
- عبدالوهاب انت هني يا بعد قلبي...
احتضنه بشوق... واعتصره بحرارة... الرجل الآخر مرحباً:
- عبدالوهاب يا هلا وغلا، كيف خرجت يا رجل؟
- هلا والله بوصقر، بعدين أقولكم، خلنا نروح بالأول الشركة، وبعدين نقعد وسولف لكم شاللي صار معاي، وشلون طلعت من السجن، يا لـّه زتكم بسرعة، وين سيارتكم.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
- قصة وطنية مستلهمة من رواية (ذكرى الذكريات) بتصرف، الرواية قيد الطبع.
fahd61rashed@hotmail.com