مثقفون بلا حدود

السجين (1 من 4)

No Image
تصغير
تكبير

الساعة الرابعة فجراً، بدت حالة الطقس تتخلص من الحرارة المعبأة بالرطوبة؛ إنه الثاني من أغسطس 1990م، إنها نسائم الفجر تداعب ورقيات الأشجار ذات الأغصان الرهيفة، الرطوبة حملت معها عطر الشواطئ وعبق الجزر، هادئة ساكنة مسالمة مطمئنة طيبة كما عرفناها وعرفها العالم، إنها دولة الكويت بلد الجميع. ضمن المناطق الراقية في حاضرتها تقع فيلا أبي عبدالوهاب ذات الألف وخمسمئة متر مربع، ومساحات كبيرة أمام المنزل، ومواقف سيارات بالمظلات (الكيربي)، وأشجار وردة المجنونة تعلقت بحائط المنزل متشبثة بأسواره بألوانها الأحمر والأصفر والقرمدي. طرق باب الفيلا بكلتا يديه، وضع أصابعه العشرة على جميع أزرة الجرس وهاتف (الإنتركم)، وهو يصرخ بثيابه الزرقاء ملطخة بالتراب تمزقت من تحت إبطه وفي موقع ركبتيه جرّاء قفزه على الأسوار، حافي القدمين، بقع لدماء طفيفة إثر انزلاقات علقت واختلطت بالتراب العالق على ملابسه، فارع الرأس، يلهث، خائف.. كان يصرخ وهو يلتفت يمينا وشمالاً خوفاً من أن يراه أحد ويعيده إلى مكانه، انتفضت الفيلا عن بكرة أبيها، استيقظ موظفو الخدمة الطاهي والسائق والمزارع والخادم الشخصي لأبي عبدالوهاب. متعددو الجنسيات من شرق آسيا، وأيضاً موظفتا الخدمة واحدة من الهند والأخرى من سيرلانكا. مبنى الفيلا من الداخل مرتفع عن بابها الخارجي، ويبعد عنه نحو عشرين متراً تقريباً، تجمع عاملو الخدمة الرجال الذين يقطنون خارج المبنى السكني الخاص للفيلا. الخادمتان تسكنان مع العائلة داخل الفيلا، لهما غرفة في قبو الفيلا (السرداب)، صعدتا بسرعة وفتحت إحداهما باب الصالة فتحة صغيرة بحذر والأخرى ركبت فوقها تستشرف الحدث، نهض أبو عبدالوهاب بأريحية ارتدى (الغترة دون القحفية والعقال) ولفها على رأسه على طريقة البحارة (جريمباً)، الأم نهضت بثقل قائلة:
- شالسالفة؟ منو إللي ياينا بهالحزة أنصاص الليالي؟
أبو عبدالوهاب:


- أي ليل يامرة الفير طالع، خل أشوف بالأول اشهالصيحة إللي بره.
- خرج أبو عبدالوهاب من غرفته إلى الصالة مسرعا ونسي كل أمراضه وأوجاعه، وجد الخادمتين فوق بعضهما البعض، خائفتين، كل واحدة منهما تشد الأخرى تنظران من فتحة صغيرة لباب الصالة، وقبل أن يصل إليهما قال لهما بتحنان:
- وخري يبا... أهو.. وخري أنتِ وياها، أشو نعزوا عن الباب وخلكم هناك، خل أشوف اشهالصيحة بره.
فتح أبو عبدالوهاب الباب، وإذا بموظفي الخدمة تجمهروا تحت الدرج مقابل الباب الرئيس للفيلا، وما زال الباب يطرق بقوة وصياح متقطع.
- أقولكم افتحوا الباب..
نطق واحد من موظفي الخدمة متشجعا:
- شنو... منو... أنتا بابا...
- يا... أنا عبدالوهاب، افتح الباب يا... بسرعة.
- الأم عرفت صوت ابنها، فصرخت خلف زوجها الذي تحتمي به:
- وي... ولدي عبدالوهاب، يا عمري فتحوا الباب، فتحوا الباب، هذا عبدالوهاب... هذا صوته أعرفه.
وأرادت أن تتقدم غير آبهة لمن خلف الباب، إن كان ابنها فعلا أو غيره، ولكن زوجها ضيّق عليها بكتفه مانعا إياها من تجاوزه، قائلا لها بتردد وتودد:
- يامرة أنتِ متأكدة هذا صوت ولدنا عبدالوهاب؟ أخاف حرامي يقلد صوته، ترى المقلدين اكثروا هالأيام.
- وي... وي... ولدي ما أعرفه يا بوعبدالوهاب، أقولكم ولدي افتحوا له.
- الأب يأمر بفتح الباب. موظفو الخدمة خائفون متماسكون كمن يرقصون الدبكة، كل واحد منهم متكئ على الآخر، يمشون الهوينا ويتدافعون بأكتافهم، يتقدمون خطوتين ويرجعون خطوة، زحفا بتموج كالأفعى، والأم ما زالت تصرخ:
- أقولكم افتحوا الباب، ولدي عبدالوهاب.
عبدالوهاب ما زال يصرخ ويلتفت يميناً وشمالاً مذعوراً.

* كاتب وباحث لغوي كويتي
- قصة وطنية مستلهمة من رواية (ذكرى الذكريات) بتصرف، الرواية قيد الطبع.
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي