ما من لحظات ينبغي فيها للإنسان أن يتذكر مصيره المحتوم الآتي لا محالة من تلك اللحظات التي يزور فيها المقبرة لدفن قريب له، أو حين يذهب لتعزية أصدقاء في ميت لهم، وهو يعلم يقيناً أن يوماً ما آتٍ تنقطع علاقته بهذه الحياة الدنيا، وهذه اللحظات من اللحظات التي يجب أن تكون عبرة لنا جميعاً.
ولأن الموت مصيبة - كما ثبت باللفظ الشرعي - تصيب الفاقدين فقد سُنّ مواساة أهل الميت بعزائهم والدعاء لميتهم، كما سُنّ تقديم الطعام لهم لأنه أتاهم ما يشغلهم عن تحضيره، فقد ثبت في السنة النبوية أن الرسول قال: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم» في يوم وفاة جعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول، ولأن الطعام كان شحيحاً وطبخه يحتاج إلى جهد كبير لا كما حالنا الآن، فقد حثت السنة على كفاية أهل الميت تحضير أكلهم في حال الوفاة وتقديمه لهم من جيرانهم أوأقاربهم، والمقصود كما ذكر الإمام الشافعي: «وأحب لجيران الميت وذوي قرابته أن يعملوا لأهل الميت يوم يموت وليلته طعاماً يشبعهم، فإن ذلك سنة وذكر كريم ومن فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا»، إذاً الهدف من هذه السُنة سد حاجة أهل بيت الميت من الأكل الذي تقوم به أصلابهم لا البذخ!
تحولت هذه السنة الكريمة عندنا - كما هي عادتنا - إلى شيء من المباهاة والتنافس والتبذير، أذكر مرة وأنا في المقبرة وللتو حالاً أنهينا عزاء أحد الأقارب إلا وأحدهم يطلب مني حجز دوره لعمل غداء للعزاء؟ وهذه عادة الناس الآن للأسف، يتسابقون حتى وهم في المقبرة لعمل هذا الغداء، ثم تبدأ الاتصالات على أقرباء الميت لطلب تحديد يوم لإحضار الأكل، ولربما أحضر شخصان أكلاً في يوم واحد لشدة التنافس! وأما عن الأكل فمع تطور هذه العادة السيئة التي أصلها سنة محببة أصبح الأكل يأتي من المطاعم والفنادق ويتم عمل بوفيهات وإحضار سخانات للأكل، ويتم تنويع الأكل بصورة مشمئزة وكأنها عزيمة عرس أو مناسبة فرح، حتى العصائر يتم إحضارها بأنواعها والحلويات كذلك، ويتم عزيمة أقرباء الميت على الغداء حتى إنني سمعت أخيرا وأنا في عزاء ما أحدهم يقول لقريبه: «ما شفناك اليوم على الغدا... عاد كان خوش غدا»، وأصبح الناس يتفاخرون بنوع وكمية الأكل الذي يرسلونه لغداء العزاء.