هكذا يرحلُ الحُكماء...
ننهل من معين حكمتهم وهم أحياء، ونتلقى الدرس الأخير منهم بعدما فارقونا وغادروا الفانية ليكونوا بين يدي رب كريم.
رحل قابوس بن سعيد (المعظّم) عن الدنيا، وبقي قابوس بن سعيد (المحبّب) في قلوب الناس بعدما زال عنه سلطان الدنيا فتوّجوه بحبهم ليبقى سلطاناً على قلوبهم بإرادتهم ورغبتهم.
لماذا؟... لأنه أعطاهم كل نفسه طوال خمسين عاماً تولى خلالها مسؤولية قيادة البلاد وهو في ريعان شبابه وعنفوانه، وظل في حال من العمل المتواصل حتى غادرهم شيخاً كهلاً أتعبه السقَم ولكنه لم يدفعه أبداً للتنصل من مسؤولياته أو الهرب منها. والنتيجة واضحة ونقولها دون مواربة... كلنا نعرف سلطنة عُمان التي تسلّمها كيف كانت، وكلنا نعرف السلطنة التي غادرها للتو كيف هي.
احتبست أنفاسنا فجراً بعد إعلان البلاط السلطاني رحيل السلطان، ولكن الساعات اللاحقة كانت درساً عملياً لنا، تعلّمنا منها كيف تُدار الأمور وكيف تُحسم القضايا المصيرية.
كل ما جرى منذ فجر الأمس بعد إعلان وفاته وحتى إعلان السلطان الجديد يحمل بصمة قابوس... ثقته... هدوءه... حنكته وحكمته وقوته.
ترتيب بالغ الدقة منذ إعلان البلاط السلطاني الخبر الحزين، ثم إعلان مجلس الدفاع للانعقاد ودعوته إلى انعقاد مجلس العائلة، وصولاً إلى احترام مجلس العائلة لمسيرة قابوس وتتويجهم هذا الاحترام باستعجال فتح وصيته التي تركها ليرجعوا إليها إذا اختلفوا... فإذا بهم يتفقون عليها مبكراً ويستبقون الخلاف الافتراضي بالاتفاق الواقعي على تنفيذ ما فيها... وبكل شفافية أعلنوا فحواها والتزموا بها رغم أنها غير ملزمة لهم أصلاً.
لقد كنا أمام حالة فريدة في منطقتنا... لا غموض ولا ضبابية ولا تمرد ولا زعل ولا حركات ولا «سوشيال ميديا» ولا ذباب إلكترونياً ولا صراعات بين أبناء العمومة... بل شعور كامل بالمسؤولية والتزام بها.
إنها مسؤولية هذه العائلة تجاه تاريخها الذي مضى، ومسؤوليتهم تجاه الحاضر، ومسؤوليتهم تجاه المستقبل.
تمنياتنا لجلالة السلطان هيثم بن طارق بالتوفيق والنجاح، ويكفينا للحكم عليه ثقتنا بما قاله عنه الراحل في وصيته... «لديه صفات وقدرات تؤهله لحمل هذه الأمانة».
لله درك يا قابوس بن سعيد... حكيم في حياتك... وسيد الحكماء في رحيلك... رحمك الله وغفر لك وأسكنك فسيح جناته.