من شهداء غزة ... أما آن الأوان؟

تصغير
تكبير
صورة الطفلة هيا حمدان صاحبة البراعم الاربعة التي استشهدت عندما قصف المجرمون الاسرائيليون بالقنابل الجوية عربة يجرها حمار كانت تهرب بها من بيت الى آخر، نهديها الى الرئيس جورج بوش والادارة الاميركية لمناسبة انتهاء السنة الميلادية وانتهاء ولايته علها تحرك بعضا من ضمير غاب في غابات التوحش وكهوف القتل وانهار الدم التي لم تشبع من اجساد العرب والمسلمين.
وصورة الطفلة وقبلها صور جميع قتلى المجزرة الاسرائيلية المستمرة نهديها ايضا الى انفسنا، عربا ومسلمين، علها تحرك في عقولنا بعضا من وعي غاب في غابات العاطفة وكهوف الاستنكار والعجز وانهار الدموع والعويل التي لم تجف على فلسطين وضحايا فلسطين.
مجزرة جديدة نتعامل معها كما تعاملنا مع كل مجازر اسرائيل، وكأن هناك انظمة وطرقاً ثابتة محددة تحكم تفكيرنا آليا وتجرفنا في الاتجاه نفسه منذ 60 عاما.

بين العقل والعاطفة مسافة شعرة إذا اردنا ان نغير الطريق، ومسافة اميال إذا تركنا للعجز أن يأسرنا، وآن الاوان لنوقف تضييعنا لفلسطين بعدما اضاعها الاحتلال وشرد اهلها وسحق شعبها... ونقطة البداية والانطلاق هي الاعتراف بأن اسلوب ادارتنا لقضية العرب المركزية هو اسلوب خاطئ ويحتاج الى ثورة حقيقية تستطيع اختراق الجدار الحاجب الذي بنيناه حجرا فوق حجر لستة عقود.
مجزرة، فضحايا، فمناشدة، فتنديد، فقمة، فتحرك دولي، فخلافات، فمنازعات، فاتهامات، فتظاهرات، فحروب عربية عربية بكل الاسلحة السياسية والنارية. هل تغير شيء منذ ستين عاما بالنسبة للكلمات السابقة؟ لم يتغير ولن يتغير لأننا كما يبدو صرنا نستعذب منطقة العجز ونخشى الخروج الى منطقة اخرى.
اسلوب ادارة الصراع يجب ان تتغير. امم كثيرة حصلت على حريتها واستقلالها عندما قرأت بهدوء ووضوح خريطة الطريق الدولية ففتحت ثغرات اسمعت من خلالها صوتا اكثر دويا من صوت القنابل والمتفجرات وخطف الطائرات وقتل المدنيين. شخص واحد اسمه نلسون مانديلا ارتضى السجن ليمنح الحرية لوطن ونجح في فك اسر جنوب افريقيا لانه نقل قضية الاحتلال والعنصرية الى كل بيت في افريقيا والعالم... صحيح ان الثمن كان كبيرا لكنه دفع في الوجهة الصحيحة.
لا مشروع عربيا موحدا لحل قضية فلسطين، بل لا مشروع فلسطينيا موحدا لحل قضية فلسطين. كل الفصائل كانت وما زالت جزءا من محاور وكل محور كان وما زال يستخدم القضية لمصالحه الخاصة او رؤيته الخاصة. وحدها اسرائيل امتلكت مشروعا واحدا واضحا حشدت له غالبية شعبها واستقطبت من خلال قراءتها العقلية للغة العالم تعاطفا دوليا.
الجلاد ينجح امام العالم في الظهور بمظهر الضحية والضحية تذبح على مذبح العدوان والتشتت والضياع وتنجح في الظهور امام العالم بمظهر الجلاد، ونحن تارة نهاجم العالم بلا هوادة وطورا ننبطح امامه بلا هوادة، تارة نسالم وطورا نحارب، تارة يستخدمنا هذا النظام او ذاك ورقة في ملفه وطورا نعتبر طريق فلسطين يمر عبر هذا النظام او ذاك.
مرات قليلة استطاع العرب فيها استخدام العقل المقرون بصدق النية فنجحوا جزئيا وتحركوا خطوة الى امام. نجحوا في 1973، ونجحوا عندما قرر المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز استخدام سلاح النفط، ونجحوا عندما خرجت قضية فلسطين من ازقة لبنان والاردن والكويت الى ضمائر مئات الملايين في العالم خلال مفاوضات السلام. كانت صورة الجندي الاسرائيلي وهو يكسر بحجر ذراع طفل فلسطيني خلال الانتفاضة الاولى اقوى وقعا من كل عمليات خطف الطائرات او تفجير المقاهي وكان الحد الادنى من التوافق العربي في مؤتمر مدريد كفيلاً بإظهار صورة حاضرة لقضية غائبة، وكانت صور المقاومين في جنوب لبنان عامي 2000 و2006 وهم يندفعون خلف جنود اسرائيليين هاربين اعنف هزيمة لمشروع الاحتلال والتوسع... لكن ذلك قليل قليل اذا ما قيس بعمر القضية واثمانها من جهة وبنجاحات المعتدي والمحتل من جهة اخرى.
اعرف ان آخر ما تحتاج اليه التطورات اليوم هو هذا النوع من الكلام والمراجعات والنقد الذاتي، فكل المواقف والصيحات والحملات والمال تساوي صفرا في حسابات الشهادة والدم، ولا نملك الا الانحناء امام هذه التضحيات التي تكشف عرينا وعجزنا، لكننا ان لم نطلق اليوم صرخة الالم والقهر والعقل لتغيير اسلوب ادارة الصراع مع اسرائيل فلن نملك لا غدا ولا بعد غد ما نستر به انفسنا سوى الدمع والتحسر على حقوق اغتصبتها يد مجرم واكملنا إضاعتها بأيدينا.
اسرائيل المجرمة تستفيد اليوم من تبادل الاتهامات بين العرب انفسهم. هي تقتل وتدمر ونحن نتهم انفسنا بالتقصير وكأن الجريمة تحصل في موقع آخر. بعض التظاهرات أضاع الطريق، وبدل ان يحصل اعتصام حضاري امام مقار الامم المتحدة وسفارات الدول الخمس الكبرى وجدنا من يقتحم قنصلية مصرية وينزع العلم المصري عنها. علم الدولة التي خاضت كل الحروب دفاعا عن فلسطين وقدمت اكثر من مئة الف شهيد دفاعا عن فلسطين وانهار اقتصادها دفاعا عن فلسطين. فهل يعقل ان يكون الرد العربي في هذا الاتجاه نصرة لضحايا غزة؟ مرة اخرى هي العاطفة والشعارات والتوجيه المنظم لشارع محبط.
ستون عاما ونحن نرد على المجزرة الاسرائيلية بالتظاهر والصياح وتحطيم اشارات المرور وممتلكات الدولة. نعبر عن عجزنا في التصدي للهمجية الاسرائيلية بكيل الاتهامات لبعضنا. نحرق الاعلام ونرفع الاحذية ونلف الكوفية على رقابنا. ندعو الجرحى الى مستشفياتنا، ومستشفياتنا اساسا جريحة تحتاج الى اسعاف. ستون عاما لم يفكر احدنا في كيفية تكوين لوبي عربي محترم على غرار اللوبي اليهودي في اميركا. موازنة «ايباك» اكبر منظمة دعم يهودية لاسرائيل في اميركا اقل بكثير من موازنة طائرة زعيم عربي او حتى رجل اعمال عربي. ستون عاما ونحن لا نعرف كيف نكتب مقالا ينصر قضيتنا وبلغة يفهمها الغرب في صحف الغرب. ستون عاما ونحن لم نعرف كيف نربط الموقف السياسي الغربي بشبكة مصالح اقتصادية وتجارية ونفطية، وهل هناك اليوم اهم من الازمة المالية العالمية كي ينفذ من خلالها المال العربي الى مراكز القرار لدعم القضية الفلسطينية؟ ستون عاما ونحن لا نعرف حتى الآن كيف نتعامل مع الاستحقاقات الديموقراطية في العالم الغربي. ننظر الى الانتخابات على انها مرتبة كما يحصل عندنا بينما الآخرون يسلفون جميع المرشحين من اجل الرهان على موقف. ويكفي ان نقول انها ستون عاما كنا نتظاهر فيها رفضا للتعليم الاجنبي في المراحل الدراسية المتقدمة بينما غيرنا يرسل اطفاله لتعلم مناهج الاجانب ولغتهم وطرق تفكيرهم.
القائمة تطول ولا حاجة لفتح الجراح اكثر من ذلك، لكن التغيير يجب ان يبدأ بنا، وعلينا ان نقرر ما اذا كنا ننتظر المجزرة المقبلة لنكسر اشارة سير او نقتحم سفارة دولة عربية من دون استرجاع حق، او نتكاتف بعقل وحكمة وروية كي لا تحصل المجزرة ولا نفرط في الحق.
ويا ابنتي هيا حمدان، يا طفلتي وطفلة جميع الذين رأوك تضعين زهورك الاربع على ابواب عجزنا وخوفنا وفشلنا، اطلب منك وانت في جنة الخلد مع الملائكة ان تصفحي عنا بقلبك الطاهر، وان تسامحينا بوجدانك النقي، وان تغطي عريّنا بكفنك الزكي، وان يرتفع صوتك بالدعاء على القتلة الظالمين وداعميهم المتورطين بأن ينالوا جزاءهم الذي يستحقونه، وان يرتفع صوتك بالدعاء لنا بالهداية كي نعرف كيف نسير وفي اي طريق.
المجد والخلود للشهداء الابرار والذل والعار للقتلة.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي